خبر صغير، لو قرِئ بتمعن، لأنزل المثقف من برجه العاجي. الخبر يقول إن صحيفة نيويورك تايمز شهدت نموا متزايدا في الاشتراكات، ليصل عدد المشتركين بها إلى 4.5 مليون مشترك، في عصر تعاني فيه الصحافة من هجرة القراء، ومن أزمات مالية حادة أجبرت العديد من الصحف على الإغلاق أو تقليص نشاطها. الصناعة والشعبوية ما يثير الانتباه في الخبر هو السبب الأبرز الذي يقف خلف هذا النجاح، النسبة الأكبر من المشتركين، حسب المسؤولين في نيويورك تايمز، جذبتها الكلمات المتقاطعة ومنصة الطهي، الزاويتان الأكثر قراءة في الصحيفة. أهمية الخبر أنه يكشف الفجوة الكبيرة بين أوهام النخبة الثقافية والسياسية، وبين حقيقة الناس في الشارع. حيث دأبت النخبة على احتكار حق التقييم وفرض الذائقة على الآخرين. الفجوة هذه ليست ظاهرة أصابت بلدا دون آخر، بل تكاد أن تكون ظاهرة عامة، نجت منها دولة واحدة بشكل واضح هي الولايات المتحدة الأميركية، وقد يعزى السبب إلى كون المهاجرين الأوائل إلى “الغرب المتوحش” لم يكونوا نخبويين، بل هم مغامرون باحثون عن الثروة، جاؤوها من كل فج، جريا وراء الحلم الأميركي. إن أراد الأميركي اليوم أن يرتقي بذوق أبنائه ويدخلهم نادي الأرستقراطيين، يرسلهم لتلقي تعليمهم الأولي في بريطانيا.النزعة الشعبوية، التي كثر الحديث عنها مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، ليست نتاج اليوم، أميركا بنيت على تلك النزعة، بدءا من عملتها الورقية التي حملت شعار “نحن نؤمن بالله”، وصولا إلى استديوهات هوليوود، التي ضربت باللغة السينمائية عرض الحائط، واتجهت إلى صناعة سينمائية هدفها إنتاج أفلام “شباك تذاكر”. كل شيء تحول في أميركا إلى صناعة، الطعام والفن والسينما والموسيقى والنشر، حتى السياسة والحروب والحب أصبحت صناعة. هناك مثل شعبي، لن يعجب النخبويين حتما، يقول المثل “لولا الأذواق لبارت الأسواق”، هذا المثل محفور على جينات الأميركيين، الذين يحترمون أذواق المستهلك حرصا على الأسواق. استطاعت هوليوود، مسلحة بهذه الفلسفة، أن تتجاوز الفرنسيين والإيطاليين والسويديين وباقي دول العالم، تاركة إياهم يجرون وراء وهم سينما النخبة، لتنتهي السينما في تلك الدول إلى أزمة، وتصبح عاجزة عن الصمود إلا بدعم من هيئات ثقافية وحكومية. لن نجادل النخبويين حول أهمية مخرج مثل فلليني، أو بازوليني، أو برغمان، ولا يصح أن نقيم فنيا الأهمية التي لعبتها فرنسا، وهي التي قدمت عام 1895 للعالم أول فيلم في التاريخ، التقطته عدسة الأخوين لوميير، ولن يفيدنا الخوض في حديث حول مدرسة الواقعية الشعرية الفرنسية، التي ظهرت وانتشرت في أواسط ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وكان من أبرز ممثليها المخرج مارسيل كارنيه، الذي عمل عن قرب مع الشاعر جاك بريفيه. إرث هؤلاء “العمالقة” محفوظ اليوم في المتاحف وفي عقول النخبة والمختصين. الفن السينمائي تحول في أميركا إلى صناعة هدفها الربح والسيطرة، والأرقام تتحدث عن ذلك. خلطة سحريةلا يوجد أحد في العالم لم يتأثر بالثقافة الأميركية، فهي من يسيطر اليوم على الإعلام والسينما والتلفزيون والاقتصاد والسياسة، ولن نبالغ إذا قلنا إن أكثر الأسلحة التي استخدمتها أميركا فعالية في مواجهة المعسكر الشرقي كانت هي هوليوود. ولكن رغم ذاك، لا توجد في أميركا وزارة للثقافة. آندي وارهول، عكس تماما هذه الشعبوية الفنية، عندما حول علب تغليف ماركات تجارية إلى تعويذات فنية، مستمدة من الثقافة الشعبية الاستهلاكية الأميركية. عام 1962، رسم وارهول “علبة حساء كامبل” بديلا للوحة، وتعبيرا عن النزعة الشعبوية الاستهلاكية التي باتت تسيطر على العالم، وبنفس الطريقة تعامل مع النجمة الشهيرة مارلين مونرو، بعد أن أصبحت رمزا للثقافة الشعبية الأميركية، و”تحولت إلى سلعة ملقاة على الرفوف بالمتجر”، معترفا أن “الاستهلاك أكثر أميركانية من التفكير، وأنا أميركي”. نيويورك تايمز، ليست صحيفة شعبوية بهذا المفهوم، إنها صحيفة النخب، وأنصاف النخب، أجادت تسويق نفسها، بخلطة سحرية تدغدغ الجانب الشعبي فينا، والذي كثيرا ما نحاول إخفاءه.
مشاركة :