بأكثر من مئة وثلاثين مليون مشترك في نحو مئتي بلد، وبإنتاج أكثر من مئة عمل درامي في السنة تكون شركة نتفليكس أكبر شركة تبث مضامين “تلفزيونية” دون أن تكون قناة تلفزيونية. هو تلفزيون بالإنتاج لا بالبث، إذ لا ترددات له، ولا بالتلقي حيث لا شاشة تلفزيونية تحمل شارة نتفليكس. هو عصر ما بعد التلفزيون. وإذا كانت نتفليكس تجسيدا لعصر ما بعد التلفزيون على نطاق صناعي وعالمي واسع فإن منصات مثل يوتيوب مكنت المشاهد التونسي بعد رحيل النظام السابق من أن يختار متى يشاهد ما يريد وعلى أي منصة يريد. فما جدوى أن تقرر الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري ترحيل بث المسلسل المثير للجدل، “أولاد مفيدة”، إلى ما بعد الساعة العاشرة مساء؟ قبل عقود كان مثل ذلك القرار ذا جدوى، عندما كان التونسيون يشاهدون التلفزيون متحلقين في البيت أمام شاشة التلفزيون دون غيرها من الشاشات تحت رقابة الأم أو الأب لمنع المشاهدة نهائيا عند الضرورة. أما اليوم فقد اختلف الوضع إذ أصبح بإمكان أي كان قد منعنا عنه برنامجا أن يشاهده منفردا وقت ما يشاء على منصات متعددة بتطبيقات لا تحصى. لقد تبدل النموذج التلفزيوني الخطي تبدلا عميقا بفعل الثورة الإلكترونية ولم تعد مشاهدة المضامين التلفزيونية حكرا على شاشات التلفزيون التقليدية وهاجر كثيرها إلى شاشات الكمبيوتر والألواح والهواتف. وذهب الأمر إلى أبعد من ذلك إذ أصبحت كبريات القنوات التلفزيونية في العالم تأخذ أفلاما ومسلسلات عن شركة مثل نتفليكس عبر الإنترنت. ولا يعفي هذا الوضع الجديد الذي استقر عليه التلفزيون من مراجعة الأساليب التي تعالج بها الدراما التونسية واقع الناس كما أنه لا يبرر عرض ما يراه طيف واسع من التونسيين غير ملائم لهم. إنه وضع يطرح مجددا معضلة تعديل المشهد التلفزيوني في البلاد حتى لا تكون السوق هي التي تحدد طبيعة الإنتاج. والمقلق في الأمر أن الجدل الحاد والواسع، الذي رافق بث “أولاد مفيدة”، ركز على المسلسل، الذي اعتبره كثيرون ماسا بالأخلاق، دون أن يرافقه حوار يثير الظروف الجديدة التي يستهلك فيها الناس التلفزيون بطريقة مختلفة ودون التركيز على أن عصر ما بعد التلفزيون برمته يستعبد الناس بمخاطبة غرائزهم ومستخفا بعقولهم. ويعلم التونسيون علم اليقين أنهم يشاهدون البرامج التلفزيونية على اختلافها على أربع شاشات مختلفة هي التلفزيون والكمبيوتر والألواح والهواتف مما يعني أن النقاش المتصل بالمضامين الجدلية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ذلك الواقع الجديد وألّا يدور النقاش حول محمل وحيد هو شاشة التلفزيون. ويمتد ذلك الخلل، المتمثل في طرح المسألة خارج سياقها، إلى عمليات قياس نسب المشاهدة باعتماد شاشة التلفزيون دون غيرها من الشاشات. وعندما تطالعنا نتائج تقول إن القناة الفلانية هي الأكثر مشاهدة فلا يعني بالضرورة أن مضامينها هي الأكثر مشاهدة. إن عددا من الناس يشاهدون قنوات ومضامين أخرى على شاشات أخرى فتنخفض نسبة مشاهدة تلك القناة حتما. ومن أوجه الخلل الأخرى، التي تجعل الجدل حول المضامين التلفزيونية في غير سياقه، هو الاعتقاد بأن للمضامين المصنفة رديئة أو مسيئة للأخلاق تأثيرا سيئا في المجتمع. ويقوم هذا الاعتقاد على معادلة لا تستقيم بالضرورة ترى أن مضمونا دراميا رديئا ينتج أفرادا رديئين وأن مضمونا دراميا جيدا ينتج أفرادا جيدين. ودون الخوض في مفهوم الرديء والجيد في الإنتاج التلفزيوني فإن تأثير التلفزيون في الناس ليس مباشرا ولا آليا كما يعتقد البعض. لقد ولى زمن لاسويل صاحب نظرية “الحقنة تحت الجلد” منذ ثلاثينات القرن الماضي وجاء بعده بنحو عقد كاتز ولازارسفيلد وغيرهما لبيان أن الميديا الجماهيرية لا تؤثر في الناس وكأنهم مخدرون، بلا عقل ولا إرادة، بل بطرق أخرى من مقوماتها “مبدأ التعرض الانتقائي” للمضامين الإعلامية. ومبدأ التعرض الانتقائي هو أن يختار الناس عن وعي المضامين التي يريدون استهلاكها. ومن المفارقات أنّ بعض الدراسات تعود اليوم، بعد نحو ثمانين عاما، لتتبنى ذلك المبدأ في فهم تأثير الميديا في الناس وعلى رأسها التلفزيون. وتصاحب مبدأَ التعرض الانتقائي متغيراتٌ أخرى تعدّل تأثير التلفزيون مثل الوسط الاجتماعي والدرجة التعليمية والميل الأيديولوجي وغيرها من المرشحات الأخرى.لقد أصبح من العسير فهم تأثير التلفزيون دون أن يأخذ المختصون في دراسته، بعين الاعتبار ظروف الاستهلاك المرتبطة بتغيّر طبيعة التلفزيون. فالحديث عن التلفزيون في مرحلة ما بعد التلفزيون يعني النظر بالضرورة إلى العرض متعدد الشاشات أي المضامين التلفزيونية المبعثرة على الشبكة العنكبوتية. ومن مظاهر ذلك العسر خطران كبيران؛ الأول هو أن الشبكات الاجتماعية وفيسبوك على رأسها، تجمع المستخدمين في فرق نقاش حسب تقارب ميولاتهم فيكون النقاش في اتجاه دعم ما يؤمنون به أصلا أو الإمعان في رفض ما يرفضونه أصلا فيكونون أشبه بالقبائل الإلكترونية لا يدخلها إلا من كان منهم. وواضح أن التأثير والتأثر يكونان في اتجاه اختاروه مسبقا. وأما الخطر الآخر فهو أن الخوارزميات تحصي على المستخدم كل صغيرة وكبيرة عبر شواهد المتابعة (كوكيز) فتقترح عليه الخوارزميات مضامين، عند كل بحث على الشبكة، تناسب عاداته في المشاهدة. فالمستخدم الذي يدمن مشاهدة الدراما التونسية مثلا على قناة أكثر من غيرها سيجد في نتائج البحث ما بحث عنه ثم قائمة لا تنتهي مما تعود على استهلاكه. ويجد المستخدم نفسه في تلك الظروف ضحية لميولاته إذ يصبح في وضع يمارس فيه التأثير على نفسه قبل أن يمارسه عليه آخرون فيتحول إلى عبد لشواهد المتابعة التي لم تبرمج لتعرض على المستخدمين مضامين متنوعة وثرية تخرجهم من رتابة العالم الذي تعودوا عليه فأدمنوه. في ثمانينات القرن الماضي قسم أومبرتو إكو عصر التلفزيون في الغرب إلى عصرين، “عصر التلفزيون الحجري” حتى بداية الثمانينات ثم بعدها “عصر التلفزيون الجديد” ليضيف إليه جون لوي مسّيكا عام 2006 “عصر ما بعد التلفزيون”. أما التلفزيون التونسي فقد اختصر المراحل ودخل رأسا بعد 2011 عصر ما بعد التلفزيون، ليعود في كل رمضان إلى عصر لا يقدر على تصنيفه أحد.
مشاركة :