قبل عشرين عاما قدمّت مدينة إسطنبول أردوغان للأتراك والعالم كمحافظ للمدينة الشهيرة ووجه تركيا القيادي الجديد، لتتخلى المدينة نفسها وللمرة الأولى منذ عقدين عن انتخاب حزب العدالة والتنمية كممثل لإسطنبول، حيث انتخبت المدينة اكرم امام أوغلو، ممثل الحزب المعارض محافظاً للمدينة. ولأهمية إسطنبول، أغنى المدن التركية، ورمزيتها للحزب الحاكم في تركيا ولتاريخ أردوغان، رفض حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP) الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نتائج الانتخابات، معلناً عن إعادة إجرائها مرة أخرى في 23 يونيو. وعلى الرغم من الانتقادات التي تنهال على أردوغان وحزبه الحاكم لتشويهه الديمقراطية التركية وأنظمتها الانتخابية، إلا أن الثقل الأكبر أخذ يضرب الاقتصاد التركي. وكشف الباحث في جامعة بروكلين والمختص بالعلاقات الدولية، لويس فيشمان عن أن أكثر ما يؤرق النظام التركي هو الاقتصاد المنهار الذي يتوجه الناخبون على إثره إلى صناديق الاقتراع لاختيار مرشحهم، حيث تفشل إجراءات الحكومة التركية بإنقاذ الاقتصاد بسبب عمق الأزمة وانعدام الثقة في الحكومة وقدرة أردوغان على تخطي الضائقة، لترتفع العملة التركية الاثنين بأكثر من 2 بالمئة بعد قيام بنوك حكومية تركية ببيع أكثر من 4.5 مليار دولار أميركي في السوق التركية لوقف ارتفاع الدولار، إلا أن الخطوة أتت بنتائج عكسية. وأجرت «الرياض» مع فيشمان الحوار التالي: لماذا قادت خسارة الحزب الحاكم لإسطنبول إلى كل هذه التداعيات؟ ما حدث في الحقيقة في خسارة الحزب الحاكم للانتخابات المحلية هو أمر مثير للاستغراب، فهو فوز أهداه أردوغان لمعارضيه. بداية يجب أن نفهم أن الانتخابات المحلية في تركيا ليست كل شيء، والخسارة فيها لا تقارن بخسارة البرلمان أو الحكومة إلا أن أردوغان نفسه تشدق لأشهر قبل هذه الانتخابات وبالغ في التنبؤ بأنه حزبه سيفوز بها، كما جاء على لسانه القول «الانتخابات المحلية ستكون إعادة تأكيد على شعبيتنا». والمفاجأة كانت أن نتائجها أكدت على انحدار شعبيته لأدنى مستوى منذ عرفته تركيا، لذلك كانت ردة فعل الحزب الحاكم جنونية، وردة الفعل هي ما أقصد أنها هدية للمعارضة. كان بإمكان الحزب الحاكم تمرير هذه الانتخابات دون فضائح تشكك الشعب باقتناع حزب العدالة والتنمية بالديمقراطية. كان السكوت عن النتائج أقل كلفة بكثير، الاقتصاد اليوم والليلة لا ينهار لأن حزب العدالة والتنمية خسر أو فاز بالانتخابات المحلية، ولكنها تتراجع لأن اليقين باستقرار تركيا وقدرة نظامها الحالي على إنقاذ اقتصادها وتحدياتها الوجودية لم يعد موجودا، والكل خائف من أكبر المستثمرين إلى كل سائح اعتاد زيارة تركيا. فيشمان: وجوه شعبية جديدة تهدد أردوغان تدابير وقف تدهور الليرة التركية تخفق بعد ساعات عشية خسارة العدالة والتنمية في الانتخابات في إسطنبول كان المشهد يؤكد على عكس ما قاله وتنبأ به أردوغان، فالناس كانت في الشوارع تحتفل بسعادة النصر التي حققته بعد أن عانت من حكومة جاءت للالتفاف على أي قانون فقط لتبقى. ماذا سيحدث بعد إعادة الانتخابات؟ لا شيء تغير إلا أن الناس أكثر غضباً من أردوغان وحزبه. حاول الحزب الحاكم لأول مرة الانصياع لرغبات الشارع الكردي فرفع العزلة لأول مرة في التاريخ عن قائد PKK عبدالله أوجلان فسمح له لقاء محاميه، ولكن هذا لن يغير رأي الشارع الكردي الذي أسهم في خسارة أردوغان. أكرم امام أوغلو الذي فاز في إسطنبول ليس وحده، ولكن وراءه على الأقل 16 مليون مواطن تركي غاضب ليس من خسارة مرشحه ولكن من تدمير مستقبل بلادهم وسياساته وعمليته الانتخابية. امام أوغلو ألقى قبل أيام واحدة من أكثر الخطابات تأثيراً التي سمعها الشارع التركي، وخطابات أردوغان الشعبوية ولى تأثيرها إلى الأبد. أردوغان يفقد الأسباب التي التف حوله بسببها الكثير من الأتراك، مثل أنه كان رمزاً لإنهاء الانقلابات العسكرية في تركيا، وتعزيز للاستقرار والانتخابات المدنية، ولكن الآن فتحت عيون الجميع على أن هذا الإنهاء لحقبة الانقلابات كان فقط لفتح صفحة الديكتاتورية وهذا غير مقبول. «كل شيء سيكون على ما يرام» هو شعار أطلقه امام أوغلو، ليتصدر الترند في تركيا لأيام، هذا سيل من الحب والشعبية لرجل آخر في تركيا غير أردوغان هو أمر جديد مثير للاهتمام ولا شك أنه يوجع أردوغان ويدفعه لأخذ قرارات غير محتكمة إلى العقل، مثل إعادة الانتخابات في إسطنبول. كيف يؤثر هذا القرار على العلاقة التركية بالغرب وأوروبا التي كان طموح جزء من الشعب التركي الانضمام لها؟ حذرت مفوضة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني من أن تركيا تنتهك التزاماتها كعضو في مجلس أوروبا: وسمت تحديداً إلغاء الانتخابات على أنه أمر يتعارض مع الهدف الأساسي المتمثل في العملية الانتخابية الديمقراطية لضمان أن تسود إرادة الشعب.. الجميع في أوروبا يسأل سؤالا بسيطا؛ هل يريد أردوغان أن يعيد الانتخابات حتى يربح بشكل أو بآخر؟! التصرفات التي يقوم بها الحزب الحاكم، تبعد تركيا عن أهم حلفائها وأكثر من حماها ووقف إلى جانبها، وحين يتعرض الأمن للمخاطر كل شيء ينهار وفي المقدمة الاقتصاد. أوروبا ترفض حالة البلطجة في الانتخابات، والمراقب كان واعيا منذ البداية على رغبة العدالة والتنمية بتمرير الفوز بالبلطجة والقوة فبينالي يلدريم، المرشح عن الحزب الحاكم في إسطنبول كان قد أعلن فوزه حتى قبل انتهاء عمليات الفرز.. هؤلاء يريدون أن تكون النتيجة واحدة وعلى مزاجهم، وهذا صعّب مهمتهم وجعل العالم كله يراقب وفي المقدمة أوروبا. أتوقع أن الجولة الثانية من إعادة الانتخابات ستكون أصعب. على هامش الرفض السياسي لإعادة الانتخابات، تشهد تركيا أيضاً احتجاجات شعبية، من هم هؤلاء المحتجين وكيف يؤثرون على المشهد الانتخابي؟ من هؤلاء المحتجين من لم يعد يثق بأن الاقتصاد التركي سيكون على ما يرام مع أردوغان وحزبه، فيحتجون خوفاً من المستقبل، وخاصة أن القطاعات النشطة في تركيا تتطلب الاستقرار والأمن والثقة بمستقبل البلاد وهذا كله يتدهور. النوع الثاني من المحتجين، هم الأتراك المسيسين والذين يعلمون كيف أن نظامهم السياسي ينهار بتصرفات أردوغان ابتداء من قرار إعادة الانتخابات إلى الحملات في سورية، إلى لعب أدوار ظلامية في الحرب السورية وضرب المجتمعات التركية ببعضها البعض على أساس سياسة فرق تسد ليبني تحالفاته تجعله يفوز في الانتخابات. النوع الثالث هم ناس يعانون يومياً من حالة القمع القصوى التي تصيب البلاد، فبالإضافة إلى 96 ألف معتقل (منهم 320 صحفيا) في تركيا، يوجد 150 ألف مختفٍ، كما يوجد 3000 مدرسة تم إغلاقها عنوة لأن أساتذتها ومديريها لا يؤيدون الحزب الحاكم، كما يوجد أكثر من 500 ألف يخضعون لتحقيقات دورية وممنوعين من السفر، وأرقام أخرى مرعبة عن ناس انتزعت حقوقها وحرياتها دون سبب. هؤلاء يوجد متضررون يحتجون من ورائهم ولن يسكتوا. ذكرت أسلوب ضرب الحزب الحاكم للجماعات التركية بعضها ببعض لخلق تحالفات تنتخب العدالة والتنمية، قلت أيضاً أن السماح لمحامي أوجلان بلقائه لن ينطلي على الأكراد. ماذا سيغير الحزب الحاكم ليحيي شعبيته؟ هناك الكثير من الخطط التي تدور الآن وقد تغير السياسات الخارجية التركية إلى حد كبير. تركيا تحاول أن تتحدى وفي ساعة الضغط تقبل بالتنازلات كما حدث في الإفراج عن القس برانسون، والآن يحدث في رفع العزلة عن أوجلان، لكن من الاستراتيجيات التي ستتغير، هو ما نراه في سورية اليوم، تركيا تحاول استرضاء روسيا بشتى الوسائل، واسترضاء المعجبين بالسياسة والدور الروسي داخل تركيا. هناك انتقادات شديدة وعدم فهم لسلوك الحزب الحاكم في سورية ولماذا دعم متطرفين، اليوم نرى أنقرة تتخلى عن إدلب والجماعات المعارضة ونرى انسجاما كاملا مع تركيا التي تستهدف إدلب بحملة تصعيدية جديدة. الحزب الحاكم سيقامر بالكثير من العلاقات والسياسات في سبيل الحصول على تحالفات جديدة ومؤيديين جدد لكن هناك شرخا كبيرا على صعيد الاقتصاد، وعلى صعيد العلاقات مع الغرب والشعبية الداخلية، وهي أمور متناقضة وإصلاحها يحتاج إلى حلول متناقضة وبالتالي حظاً سعيداً للعدالة والتنمية بالتعامل مع كل هذا، بسبب انتخابات محلية لم تكن تستحق في الواقع كل هذه المخاطر.
مشاركة :