الشارقة: علاء الدين محمود «أريد أن أمشي، لأتعرف إلى العالم، فالمشي حالة فريدة من التعلم والتعرف إلى الحياة، لأرى ما أراه وأسمع ما أسمعه، وأنا أسير وأتحرش في حالات كثيرة بكثيرين، خصوصاً الفقراء، أتحرّش بهم، أتحدث إليهم، أمشي معهم وأتعلّم منهم». هذه الكلمات تضيء تماماً شخصية المفكر والأديب والفيلسوف والإنسان طيب تيزيني (1934-2019)، وعلى الرغم من الصخب وهدير المدافع وأزيز الطائرات المقاتلة وأصوات الحرب في سوريا، فإن تيزيني يمضي على مهل بلا ضجيج كحاله الوادعة المحبة، وعلى الرغم من عشرات الألقاب التي نالها وكان آخرها «فيلسوف العرب»، واختياره ضمن 100 فيلسوف عالمي مؤثر حسب تصنيف مؤسسة «كونكورديا» الفلسفية الألمانية الفرنسية عام 1998، فإنه كان حالة مختلفة من الأدب الجم وتواضع العلماء، انكب منذ وقت مبكر على دراسة التراث العربي، وكانت له في ذلك العديد من الإصدارات، وناقش ظاهرة العولمة، والهيمنة الرأسمالية، ومسألة الخصوصيات، فكان من المفكرين الذين كشفوا عما وراء الظاهرة، وفككوا ألاعيبها، فالعولمة تريد أن تبتلع الجميع لتعيد إنتاجهم سلعاً، كما كان تيزيني يرى بحسه المتمرد، وضميره الإنساني المتقد، ثم انشغل تالياً بالحالة السورية والواقع المرير الذي يشهده بلده سوريا. في حمص السورية، كانت البدايات والنهايات، حيث إنها المكان والفضاء الذي شهد مولده، وشكل حياته وتوجهه، فقد ولد في بيت علم وأدب، حيث كان والده مصطفى تيزيني رجلاً متديناً ومحاججاً في ذات الوقت، عرف بصفة الشجاعة والوضوح، مما جعل بيته يشهد جلسات قريبة من فكرة الصالون الأدبي. ولعل حياة الوالد تلك سربت إلى تيزيني الابن الروح الناقدة والمحبة للأدب والجدال والفلسفة، كما تعلم التواضع؛ تلك الصفة التي عرف بها طوال حياته، وتلقى في هذا البيت الجميل أهم دروس حياته، وهو أن الأفكار متعددة وأن الفكرة التي تؤمن بها ليست هي بالضرورة الحقيقة الكاملة، فالإنسان يظل يتعلم دائماً من الحياة، فكان تيزيني بذلك مفكراً مضاداً للجمود والإقصاء، وذلك كان هو موقفه من الفكرة الماركسية، حيث كانت بالنسبة له أداة لكشف الحقائق وتغيير العالم، وفلسفة يجب أن يزال عنها الغبار الأيديولوجي الذي علق بها، وتلك الروح النقدية ينتقل بها تيزيني في جميع مشاركاته السياسية في الحياة السورية، ثم في الإسهام الفلسفي العربي الذي بدأه عبر مشروع أسس له منذ عام 1967، حيث كانت أطروحته للدكتوراه في ألمانيا تحمل عنوان: «تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة». كانت سوريا الجريحة الهم الذي فرّغ تيزيني ما تبقى من حياته لأجله، فقد بقي داخل بلاده على الرغم من الخراب ولم يفارقها إلا للمشاركة في المنتديات العالمية المتعلقة بسوريا، ولم ينقطع عن التفاعل معها إلا للحظات كان ينكب خلالها لكتابة سيرته الذاتية العامرة، فقد فضل أن يكون ضمن الذين حملوا مهمة التصدي للمصاب السوري. وبقوة وحسم شديدين راح تيزيني يعبر عن موقفه وأفكاره داخل البلاد، وفي أحد الحوارات الصحفية ذكر تيزيني أن حالتين تداهمانه بسبب ما تمر به سوريا، وهما: النسيان والبكاء، وهي ذات الحالة البكائية التي تسربت إلى السوريين وهم يستمعون إليه، وهو يأسى على احتضار بلده في ظل ما يعيشه من ظروف حرب ودمار. ترك الراحل تيزيني العديد من المؤلفات التي تتصادى مع واقع الأمة العربية، وخاصة تلك الكتب التي عبرت عن إسهام عظيم للرجل في مجال الفكر والفلسفة العربية ومنها «من التراث إلى الثورة.. حول نظرية مقترحة في التراث العربي» 1976، و«مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة» 1982، و«الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، مشروع رؤية جديدة للفكر» 1982، و«فصول في الفكر السياسي العربي» 1989، و«من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي.. بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية» 1996، و«من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني» 2001. وتقف تلك المؤلفات كدليل ينهض على مشروع فكري كبير، ربما لن تكتمل أركانه إلا بنهضة عربية شاملة تأخذ بعضاً من رؤى المفكر الكبير كمرجعية فكرية نحو الغد العربي.
مشاركة :