التصدُّع في منظومة القيم

  • 5/20/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عبد الإله بلقزيز يَحَارُ المرء في تفسير ظاهرة التصدّع الهائل الذي أصاب منظومة القيم الاعتباريّة لدى الأجيال الجديدة من الشباب في الأربعين عاماً الأخيرة، فأوْدى بها كما تُودي الزلازل بالصروح فتُحيلُها خرائب! المخضرمون - ممّن عاصروا زمنيْن متعارضيْن - وحدهم يستشعرون حجم المُصاب الجَلل الذي أصاب المنظومة تلك؛ حين يقارنون بين ما كان واستقرَّ وساد، لردْح من الزمن طويلٍ، وما استحال واقعاً جديداً مغايراً. وكثيراً ما توحي المقارنة المعقودة بين عهديْن قريبيْن في الزمان وكأنّها بين أعصرٍ سحيقة وعصرٍ جديد، أو كأنّ الشعب الذي رَبِيَ على نظام القيم السابق غيرُ الشعب المنغمِس في النظام القيميّ الراهن، أو أنّ (الشعب) الأخير لم يخرُج من رحم الأوّل، ولا تكوَّن في أكنافه ولا تشرَّب منه شيئاً! القراءة، مثلاً، واحدةٌ من العادات والقيم الثقافيّة التي تكاد، اليوم، تضمحلّ وتختفي بعد إذْ كانت من مألوفات الحياة لدى أجيالٍ متعاقبة، على الأقلّ منذ العصر الحديث: عصر الطباعة والنشر. لا نعني، هنا، القراءة بإطلاق، وإلاّ فسيقول قائل: إنّ من يتصفّحون المواقع الإلكترونيّة، اليوم، في حواسبهم وهواتفهم المحمولة إنّما يمارسون - هم أيضا - فِعْلَ القراءة. نعني بالقراءة، تحديداً، قراءة الكتاب (والمجلّة والصحيفة استطراد)، ورياضة النفس على هذه العادة يومياً. دعْك من أنواعٍ من العلاقة السّطحيّة بالمادة المكتوبة، من قبيل «قراءة» كتب الطبخ وصفحات الأبراج في الصحف والمجلاّت، والإدمان على صفحات «الكلمات المتقاطعة»؛ فهذه ليست من القراءة في شيء؛ إذْ هي بمنزلة مضغ العلكة من تناوُلِ وجبة غِداء: مجرّد مضغٍ فارغ لمادّةٍ لا ينتفع بها جسمٌ. إنها صِنْو «القراءة» الإلكترونيّة المتنقّلة بين موقع وموقع وموضوع وموضوع في ما يُشبه «قتْل الوقت»! صبيُّ الأمس، الذي كان يدشّن حياته الثقافيّة بقراءة الشعر وروايات التاريخ، غيرُ صبيّ اليوم الذي ينغمس في عالم الصُّور المُنَمََّطة. كان الأوّل يدرّب خيالَه على التحليق، ويُنمّي ثروتَه وقدرتَه على التعبير باللغة، أمّا الثاني، فلا يتلقّى غير معلّبات لا يملك التعبيرَ عنها بأيّ وسيلة. والشابّ الذي كان أمس يقرأ الكتب ويَلجُ المكتبات العامّة، فيقتعد مقعده قارئاً لساعات، متعلِّما أصول المعرفة، منتهلاً إيّاها من الينابيع، غيرُ الشابّ الذي يكتفي، اليوم، من المعرفة بالقرصنة من الإنترنت. ولنا أن نتخيّل نوع المجتمع والثقافة الذي يُنتجه هذا وذاك: مَن يَقْرأ ومن يَسْتَلّ المكتوب من غير قراءة؛ مَن يَشقى ويَتعب ليحصّل معرفةً، ومَن لا يملك من ذلك نصيباً. ألم نَلْحَظِ النتائج في البحوث والرسائل الجامعيّة كما في غيرها ممّا يُكتَب ويُنْشر اليوم؟!الرموز والمُثُل، أيَضاً، ممّا أصابَه شرخٌ هائل ضمن منظومة القيم. في الماضي القريب، قبل جِيلٍ أو جيليْن، كانَ رموز الشباب ومُثُلهم المرجعيّة تتجسّد في رجالات تاريخيّين: من فلاسفة، ومفكّرين، وشعراء، وروائيّين، وقادة حركات التحرّر، وفنّانين كبار، وساسة مرموقين، وصحفيّين لامعين...إلخ. أمّا اليوم، فالرموز دون ذلك شأناً وشأواً: لاعبو كرة القدم، ممثّلات، راقصات، مغنِّون ومغنّيات من الدرجة العاشرة ...! ونحن نَعْلم، على التحقيق، أنّ لرمزيّةِ رمزٍ، في مخيالِ شابٍّ، أثراً عظيمَ المفعوليّة في حياته: في فكره وسلوكه؛ فهو يقوم منه مقام المرجع الذي يتشبّه به، ويتماهى معه، ويحاول أن يَكُونَهُ أو يَكُون مثالَه. وهو ما يعني أنّ رمزيّةَ الرموز تشكِّل جزءاً لا يتجزّأ من منظومة تكوين المرء؛ خاصّةً في مراحل التكوين الحسّاسة (المراهقة وبدايات الشباب)، وأنّها - بالمعنى هذا - تصنع له النموذج الإيجابيّ أو النموذج السلبيّ الذي يتقفّى آثاره. ولنا أن نتخيَّل الفارق، في الاستعدادات والتطلّعات، بين من يتّخذ أرسطو أو بيتهوڤن أو غاندي أو طه حسين رمزاً ومثالاً، ومَن يتّخذ لاعبي كرة القدم رموزاً يلهج بهم لسانُه في البيت والشارع والمقهى والمدرسة ومقرّ العمل! أو بين مَن تطمح أن تكون في مثل الخنساء أو مي زيادة أو حنّة أرندت أو سيمون دوبوڤوار أو فيروز ومن تطمح إلى أن تصبح على مثال «نجْمات» سينمائيّات و«مطربات» مصنوعات إعلاميّاً! لا تقتصر الحالةُ المومأ إليها، من الانهيار المروِّع في منظومة القيم الثقافيّة، على المجتمعات العربيّة الراهنة، التي اجتاحتْها تأثيراتُ العالم الخارجيّ من دون قدرةٍ منها على المقاومة (ما خلا المقاومة السلبيّة الانكفائيّة)، وإنّما تطال بآثارها العالَمَ كلّه؛ خاصّةً في امتداد الإمكانيّات الجديدة التي تتيحُها العولمةُ وأدواتُها لِنَقْل، وتعميم، القيم السلبيّة على أوسع النطاقات في المعمورة.وعلى ذلك، وبالنظر إلى عالميّة الظاهرة، بات مستقبل البشريّة أمام مِحَكّ يُمتَحن فيه؛ هل ستنتصر فيه القيم الإنسانيّة الكبرى فيعادُ فيه الاعتبار إلى الإنسان، كقيمةٍ عليا، أم تتغلّب القيم الغرائزيّة والاستهلاكيّة لتزيد من تَشْييء الإنسان؟! abbelkeziz@menara.ma

مشاركة :