الطيب تيزيني: إنه زمن الإنسان الوحش والعودة إلى ما قبل التاريخ

  • 5/20/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

رغم سنوات الحرب والظروف الصعبة رفض الطيب تيزيني مغادرة مدينته حمص، وعندما يطرق اسم حمص أسماعه تترقرق الدموع في عينيه. جارح هو حديث تيزيني عن مدينته حمص وعن المقهورين فيها من الشعب البسيط الذي فقد أفراده أحبتهم. تيزيني لم يغادر سوريا رغم الضغوط الذي تعرض لها من النظام، ظل باقيا في حمص يعيش مع أهلها ويتابع مشروعه البحثي ليل نهار. اللحظة المناسبة ركّزت أبحاث ومؤلفات تيزيني على مفهوم النهضة العربيّة وعواملها، وناقشت مفهوم اللحظة المناسبة، نسأله إن كان يرى أن ما شهدته المنطقة العربية خلال السنوات الخمس الماضية هو اللحظة المناسبة، يقول المفكر “في الأحداث التاريخية، خصوصا منها تلك التي قد تمثل منعطفات في التاريخ البشري، يمكن أن نضع يدنا على لحظات تظهر لنا فاعلة وحاسمة في ذلك التاريخ ضمن حقل من حقوله أو محور من محاوره، وهذا يظهر لنا، بحسب الرؤية المنهجية التي نمتلكها ونتمرّس بها، أي التي نرى أنها تحقق شرائط البحث العلمي السوسيو- تاريخي”.ويضيف “لا شك أن ما انطلق من تونس وسوريا منذ أعوام، ظهر بمثابة لحظة ما مناسبة لتحولٍ ما لبثت رموزه وشعاراته وحيثياته تفصح عن نفسها، وتعلن أنها مُستقدمة من مستقبل ما، فالعمل والكرامة ظهر كلاهما تعبيرا مأساويا عن أن الإنسان المجرد من الكرامة والعمل إنما هو شمعة في حال النوسان والذبول، لكن في نمط من النوسان الذي يؤدي رسالة”. ويلفت إلى أن التراكم كان في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل، يقابله تعاظم في تراكم المزبلة، الذي ما اكتشفناه تحت مصطلح “قانون الاستبداد الرباعي” في المجتمعات العربيّة، أي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في أن الحزب الوحيد الحاكم يقود -مع قائده- الدولة والمجتمع. معقبا “حقا، جاء الحدث العربي الراهن دونما إنذار مباشر غالبا، أما الإنذارات غير المباشرة فقد تتالت، خصوصا منذ دخول الولايات المتحدة إلى بغداد عام 2003، أو قد نأخذ سوريا نموذجا لما جاء في السؤال الأول عن غياب التعاون بين مكونات المجتمع السوري في مواجهة الأحداث، التي بدأت في الشهر الثالث من عام 2011، ذلك أن النظام السلطوي في سوريا حقق حضورا كثيفا على أرض الواقع، ووضوحا بارزا على صعيد الإفصاح عن نفسه، فقد أوصل هذا النظام (الدولة الأمنية)، ربما إلى غاياتها الأكثر وضوحا عمليا ونظريا، حيث تحولت عملية الفساد والإفساد إلى أخطبوط شمل الجميع، إلا من رحمه ربه”. ويشير إلى أنه في تلك الحال، تفككت الطبقة أو الفئات الوسطى وتشظّت تحت قبضة قانون تلك الدول الأمنية المُطالب بوجوب أن يُفسد من لم يَفسد بعد، حيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين تحت الطلب، ومن طرف آخر، كان ذلك كفيلا بتفكيك طبقات المجتمع وفئاته الأخرى على نحو منسق ومُتدرج، حيث أفضى ذلك إلى إغلاق المجتمع على ذاته ومن ثمة غياب النوافذ الكبيرة والصغيرة القادرة على التنفيس، ولو في حدود أوّلية، وهنا جاء الانفجار السلمي. ويرى تيزيني أنه تتضح الآن خمس نتائج محوريّة: بداية بغياب الكتلة التاريخية التي كانت ملاحقة ومدانة على ضعفها ومحدوديتها. ثم كانت في البدء انتفاضة حُرمت من السياسة والفكر السياسي الليبرالي. ومن ثمة، كان الحامل الاجتماعي مبعثرا ومنهكا وعاجزا أمام حضرة فئة اليافعين والشباب وفلول من الآخر. وثالثا، ضبابية مطلب القطيعة مع الماضي وعدم راهنيته في البدء. ورابعا، النتائج هي ضخامة مواجهة النظام للمنتفضين بعد الإسراع بعقد تحالفات مع دول منها إيران. ختاما، إن التغيير أصبح محاصرا بحالتين: العنف غير المسوق وتسويق الانتفاضة المشروعة بوصفها مؤامرة كونية، ما أدّى إلى تدخل عسكري من قبل إيران وصنيعاتها حزب الله وروسيا وآخرين. العولمة والعرب نسأل المفكر إن كان الحال العربي من خطاب مواطنة وسيادة للقانون وغيرهما قابل لإعادة التشكيل في ظل النظام العولمي، وكذلك في ظل الموروث الفكري الديني والقمعي للمنطقة.يقول “كان لا بد لهذه الوضعية المجتمعية الجديدة أن تفرض وجودها على الجميع، وبمزيد من التدقيق يمكن القول إن الأفكار التي قادت إلى الحراك السوري في بداياته، جسّدت تغلّب ما كانت تحمله أجيال من الأفكار الإصلاحية والثورية والقومية العربية والوطنية السورية.. ولا نرى أن ما طرحه خطاب الشباب في البدايات انتمى إلى منظومة الخطاب المسيّس، الذي أطلقته أجيال أخرى سابقة تنتمي إلى الماركسية الطبقية والقومية العربية والثالثة الناصرية والوطنية السورية غداة الاستقلال السوري عن فرنسا المستعمرة”. لكنه يلاحظ أن ما يقال عن تورط الخطاب الشبابي الراهن في إعادة إنتاج أفكار الأجيال السابقة بدلا من إنتاج خطاب شبابي معاصر، أمر قد لا يصح إلا جزئيا، فثمة حراك جديد يتبين في عمق الأحداث السورية، ليبعُد عما يمكن أن ننظر إليه بمثابته جهودا غير متسقة تماما، ولكنه جدي باتجاه إنتاج خطاب شبابي جديد، يظلّ مع ذلك متواطئا مع الخطاب السابق له. يقول تيزيني “جاءت العولمة في سياق تحولات عظمى تمّت في صلب المجتمعات الرأسمالية، ومن ضمن ذلك تبرز الدعوة إلى المابعديات -ما بعد التاريخ والحضارة والوطن والفلسفة، إلخ.- تلك الدعوة التي اقترنت بتأكيد أن خطاب التاريخ يتحول إلى خطاب في المطلق، فإذا كان التاريخ قد أوصل الولايات المتحدة فإنه إذ ذاك سيتماهى بها، ومن ثم، فإن من يرغب في الخطو نحو التقدم والحضارة، عليه أن يدرك ويتعلم كيف يصل إلى القطار الأميركي، ويبدأ عالمه الجديد فيه، وخارج ذلك القرار العالمي لا تبقى إلا ملحقات طواها الزمن”. ويتابع “على ذلك النحو فإن من يفوته القطار المذكور، يخرج من التاريخ عموما وخصوصا، في هذه الزاوية وانطلاقا منها، يصبح التعريف بالعولمة جوهر الموقف والمسألة، إذ حينذاك يمكن ضبط العولمة على النحو التالي: إنها النظام الاجتماعي والمالي والعسكري، الذي يبتلع الطبيعة والبشر، ويخرجهما سلعا ومالا، وهذا ما يدعو إلى وضع اليد على جوهر ذلك كله، فإذا كان ماركس قد وضع يده على ما يجعل من العولمة نظاما من إنتاج الأشياء عبر تحويل الإنسان إلى حالة مشيّأة، فإن الوصول إلى المقولة التالية عبر ماركس يغدو أمرا منطقيا؛ كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان، ويأتي بوغنون في كتابه أميركا التوتاليتارية، ليمنح الراهن بعدا ودلالة هائلين، في هذا الكتاب يعرف الباحث ما هي العولمة أولا بأول؛ وأنها (السوق المطلقة)، وعلى ذلك النحو فإن بوغنون يضع أيدينا على عكس ما يأتي في السؤال من أن مجتمع العولمة إنما هو على العكس من ذلك، ما يجعلنا نشهد الآن معه الانفتاح الهائل على البنى والسرديات المتنوعة “لكن دون الانتقال إلى مستوى الممارسة الفعلية”. الإنسان الوحش هناك عدد من المشاريع الفكرية التي حاولت قراءة العقلية العربية مثل مشاريع الطيب تيزيني، وأدونيس، ومحمد عابد الجابري. يقول تيزيني “نعم لقد سجلت المرحلة الممتدة من سبعينات القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهور قراءات للفكر العربي وقف وراءها رجال (فقط رجال دون نساء)، تركوا آثارا تنتظر البحث فيها والكشف عنها في سياقاتها التاريخيّة، فهذه المرحلة المديدة تتلاشى، لينشأ بديل أو بدائل عنها تتجسد في ما راح يفصح عن نفسه، مع بدايات العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه”.ويرى تيزيني أن هناك ثلة من المفكرين وقفوا بين سندان الإرث الإسلامي الملطخ بالكثير من الأسى والحزن والاضطراب، وبين سندان الواقع الميداني العربي المهشم، إضافة إلى التحدي الذي انطلق من الغرب بغاية التدخل والإلحاق والهيمنة، وهذا ما ظهر خصوصا مع ظهور النظام العولمي الذي راح المبشرون به والسالكون طريقه يدعون له ويباشرون بتأسيسه، ومع هذه المخاطر المتعاظمة نشأت منظومة ما بعد الوطن وما بعد الهوية وما بين الثقافة باتجاه الوصول إلى الاندغام بركن النظام العولمي بصفته السوق المطلقة، التي تبتلع كل الأشياء لإنتاج المال والسلع”. ويتابع “في هذه الأجواء القلقة والمضطربة ظهر أمثال المفكر المغربي محمد عابد الجابري فهذا الرجل بعد أن أوغل في البحث في تاريخ الفكر العربي عاملا على رفع الستار عن مظاهر العقلانية والتنوير فيه، وتحت تفكيك العقل والعقلانية وكذلك تفكيك الإسلام المحتشد فيه مدافعون سلفويون مناهضون للتنوير والعقلانية والحرية الإبداعية، وقع الرجل أسيرا لا حراك فيه، لمّا كان المفكر المذكور قد أوغل في فكر “عقلاني تنويري غربي” مقابل فكر عربي “ممنوع العقل والتنوير”، على حد اعتبار أن أحد آباء الاستشراق الحديث هو إرنيست رينان، فقد وجد الرجل نفسه تحت قبضة خفية تمثلت في بنيته الذهنية الباكرة”. هكذا إذن، أخلى الجابري أخيرا الساحة لفكر ديني قد ينتج الظاهرة التكفيرية، التي تعشّش في مرحلتنا ضمن مساحة مترامية الأطراف، ومع المظالم والجرائم والمذابح التي ارتكبها الغرب الاستعماري “العولمي خصوصا”، ومع ما أنتجته نظم الاستبداد والفساد والإفساد، (و خصوصا في ما حددناه باسم الدولة الأمنية)، مع ذلك كله، بزغت الحاضنة لفكر ديني وغير ديني متشدد ومهيمن بشمول، لقد وجدنا أنفسنا أمام داعش وأمام العودة إلى مرحلة التوحش في ما قبل التاريخ الإنساني العاقل، وهكذا، نجد العالم العربي الراهن حصيلة -بمعنى ما- لثنائية الداخل والخارج كليهما، خصوصا نتيجة لشل حركات العقلانية والتنوير والتحديث مع بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن. نسأله هنا أما حان الوقت بالنسبة لمفكري التجديد والحداثة إجراء مراجعات فكرية لرؤاهم وخطاباتهم ومصطلحاتهم وأدواتهم في ظل اللحظة العاصفة؟ ليجيب “بلى، حان الوقت لقيام بمراجعات نقدية كبرى، وكان على ذلك أن يطرح نفسه من قبل، لكن خطاب القتل والدم وحزّ الرؤوس في راهننا أصبح أكبر من أن يُتجاوز، بيد أن الجديد المهول في ذلك هو أنني أكتشف في عملي وعبره ومنذ تفجر الأحداث المفصلية العظمى في سوريا كما في العالم العربي، أن عالما جديدا قد يكون في طور الإفصاح عن نفسه في الغرب، كما في المشرق العربي. وأرى أن تحولا جديدا هائلا سيأخذ مداه، حيث نتمكن في سياق ذلك من اكتشاف ما أسس لـ‘الوحش الإنسان‘ الجديد في عصرنا”.

مشاركة :