أحياناً، تتكرر على ألسنتنا لوازم لغوية لا تتسق مع منطق الأمور، ومن هذه اللوازم جملة (البدو الرحّل)، وكأن البشر الذين تجاوزوا البداوة هم وحدهم الثابتون في المكان، ووحدهم البدو يرتحلون ويكسرون قانون الثبات في الأرض! يُقال إن الإنسان في أحد أطواره كان يحبو قبل أن يقف على قدمين واقفاً، وبوقفته هذه نظر الإنسان إلى الأفق البعيد، وتحرر من سكونية النظرة إلى الأرض الضيقة في حالة الحبو، ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف كل إنسان على وجه البسيطة عن الترحال، إذ بخروجه من المغارة كما يقول (إرنست فيشر)، أو بنزوله من الشجرة التي يسكنها، في طريقه إلى الغابة القريبة، بحثاً عن طعامه وطرائد صيده، بدأت ملحمة رحلة الوعي لدى الكائن البشري، وبدأ أدب الرحلات بالنشوء. من أقدم النصوص المكتوبة للبشر نقرأ في ملحمة جلجامش مسيرة (أنكيدو) وتجواله في محيطه القريب والبعيد، وارتبط عنده حلم العثور على عشبة الخلود بالنظر في تضاريس أرض الله الواسعة. وأجزم، أن غريزة الترحال مغرقة في القِدَم، وعمرها كما سبق لي أن ذكرت آنفاً، من عمر (الهومو سابين)، أي الإنسان العاقل المنتصب على قدمين. الملاحم الإنسانية الكبرى، مثل الأوديسة والشاهنامة والمهابهاراتا تنطوي على ظلال لمصطلح أدب الرحلات، وعلى الصعيد الواقعي، ترقى الكتابات التاريخية الأولى إلى سياحة المؤرخ هيرودوت وانتقاله من موطنه الأصلي إلى كل الأمكنة التي تحدث عنها، وهكذا فعل كل الرحّالة في تاريخنا العربي والإسلامي، بدءاً بـ(هشام الكلبي) ووصولاً إلى (ابن جبير). دوافع الارتحال قلت إن الارتحال غريزة، لكنها غريزة تنبت وتنمو في أحضان الحاجة، وبعض وجوه الحاجة تتمثل بالطعام، أي طعام المعدة وطعام العقل، وأيضاً لأن هذه الغريزة تغار على مبدأ الحفاظ على الذات والدفاع عن الوجود. فالحروب والتجارة والبحث عن الأمان ودوافع الاعتقاد من حج وغيره، واستكمال المعرفة والعلوم والاستكشاف؛ كلها أسباب ساهمت في انبعاث أدب الرحلات الذي يعكس أيضاً حاجات نفسية عميقة راقدة في دواخل الإنسان الطامح أبداً إلى اقتحام المجهول والمغامرة وتبديد الغموض بهدف الوصول إلى شواطئ العرفان. ولأن أسباب وأهداف تحرك البشر من مكان إلى مكان كثيرة ولا يمكن حصرها، فقد جرى من باب التبسيط تقسيم أصناف الرحلة إلى خمسة عشر قسماً منها: الحجازية (فريضة الحج إلى مكة المكرمة)، السياحية، التجارية (رحلة الصيف والشتاء لقريش) الدراسية، الدبلوماسية، التجسسية (رحلة لورنس العرب)، الاستكشافية، السياسية، العلمية، الخيالية كرحلة (المعري) في رسالة الغفران، وهكذا... وأدى التدوين والتوثيق لأقسام الرحلة في تراثنا العربي وفقاً لدوافعها وأغراضها إلى تراكم مئات الكتب التي تنضوي تحت عنوان (أدب الرحلات)، وقد ذاع صيتها ويعرفها الداني والقاصي، وسمعنا جميعاً بآذاننا أسماء مؤلفيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر: رحلة ابن جبير، مسالك الممالك للاصطخري، صورة الأرض لابن حوقل، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي، مروج الذهب للمسعودي، معجم البلدان لياقوت الحموي، الاعتبار لأسامة بن منقذ، رحلة ابن بطوطة، وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.. ومقدمته الشهيرة لابن خلدون. واستمر اهتمام العرب بهذا اللون من البحث والكتابة في العصر الحديث، وظهرت أسماء لامعة في هذا الميدان، ومن هؤلاء أمين الريحاني وشكيب أرسلان وعبد العزيز الرشيد ورفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، وفي أيامنا هذه نال حسين فوزي وأنيس منصور وجمال الغيطاني والأديبة غادة السمان شهرة واسعة، وأكاد لا أعرف كاتباً وأديباً عربياً مجايلاً لنا إلا وفي ثنايا كتاباته طَرَفاً من نزعة التجوال والمرور في مسارب وطرق الأمكنة وألقها الساحر. ابن فضلان من بين عشرات الكتب التي نصنفها تحت عنوان (أدب الرحلات) في تراثنا العربي الغني بهذا اللون من الكتابة، والمئات من المؤلفين الذين مارسوها، أخذت رحلة ابن فضلان ورسالته حيزاً واسعاً من الاهتمام الذي كان مَبْعث إلهام لكثيرين، وسأقف قليلاً هنا لأشرح الأسباب التي استدعت كل هذا الاهتمام. في المقدمة الوافية التي كتبها الدكتور سامي الدهان لكتاب (رسالة ابن فضلان) نقرأ بوضوح أن دوائر الاستشراق أظهرت عناية خاصة بهذا الأثر الذي يتحدث ويقدم معلومات غير متوافرة بكتب التاريخ حول الأتراك والروس والبلغار في القرن العاشر الميلادي، وأيضاً لندرة النسخ المخطوطة للرسالة، ولأن دوائر أكاديمية وبحثية في كامبردج وهارفارد أنفقت الجهود الحثيثة لوضع (الرسالة) بين أيدينا، وأفضت كل هذه الجهود إلى تجميع أجزاء (الرسالة) المبثوثة في مؤلفات لاحقة، ومنها كتاب ياقوت الحموي، ووجود نسخة وإن كانت تالفة وناقصة وتحتاج إلى ترميم وتحقيق، وهي المهمة التي أخذها على عاتقه د.سامي الدهان بتوصية من العلّامة محمد كرد علي، وبسبب هذه الظروف أخذت رسالة ابن فضلان كل هذه الشهرة. رسالة ابن فضلان ماهي قصة الرسالة؟ يقال إن الخليفة المقتدر استجاب لطلب ملك البلغار (ألمش بن بلطوار) الذي أرسل للخليفة كتاباً طلب فيه (أن يرسل إليه بعثة من قبله، تفقّهه في الدين وتعرّفه شرائع الإسلام، وتبني له مسجداً، وتنصب له منبراً يقيم عليه الدعوة في جميع مملكته، وسأله إلى ذلك أن يبني له حصناً يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له). وتتشكل البعثة إلى ملك البلغار من سوسن الرسّي وتكين التركي وبارس الصقلابي وأحمد بن فضلان الذي يكتب: (فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه، وتسليم الهدايا، والإشراف على الفقهاء والمعلمين). أما (سوسن) فهو من أصول روسية ويتقن لغتهم، و(تكين) يتقن التركية التي لا غنى عنها بالطريق من بغداد إلى الفولغا، و(بارس) من الصقالبة سكان شمال أوروبا ويعرف عاداتهم، ومع البعثة أشخاص ثانويون، وقد تولّى دور الدليل عبدالله بن باشتو الخزري الذي حمل رسالة ملك البلغار إلى الخليفة المقتدر. واستغرقت الرحلة 11 شهراً، ومن ثمارها رسالة ابن فضلان التي نحن بصددها. الحق، لقد استمتعت كثيراً بقراءة الرسالة التي كتبها ابن فضلان، مسؤول البعثة التي وافق الخليفة المقتدر على إرسالها، فهي تكشف عن أمور كثيرة في القرن العاشر الميلادي الغابر، في الجنوب العربي المتقدم حضارياً، وفي الشمال الأوروبي الذي كان يرزح تحت وطأة التخلف المعرفي، ويعاني من بؤس أخلاقي واجتماعي واقتصادي. وفي هذا السياق يذكر ابن فضلان شيئاً عن الأدوية التي حملتها البعثة لتقديم المعونة الطبية لتلك الأقوام الشمالية التي لا يعرف بعضها الزراعة، وينكرون الزواج الشرعي ويبيحون المشاعية الجنسية (مستوطنة تريلبورغ)، والبعض الآخر يعبد عواء الكلب، ولهم عادات اجتماعية وطقوس غارقة بالتخلف والانحطاط، ومنها دفن الجارية مع سيدها، والتعري المختلط بين الجنسين، والرطانة اللغوية البدائية، ولا يعرفون أصول النظافة. الاستلهام الروائي بعض الشخصيات في التاريخ تمتلك سحراً وجاذبية لا يمكن لأحد إنكار سطوعها وإشراقة نورها لهذا السبب أو ذاك، ومن هذه الشخصيات الحسين سيد الشهداء، والمعتمد بن عباد، وأبو عبدالله الصغير ملك غرناطة، وعبد الله بن الزبير، ورابعة العدوية، وأيضاً ابن فضلان. وغالباً ما يتناول الروائيون سِيَر هؤلاء بأعمال تتناول هذه الشخصيات وتلقي على جوانبها الأضواء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، سيرة الرحالة الحسن بن محمد الوزان التي تناولها أمين معلوف في روايته الشهيرة (ليون الأفريقي). الروائي والشاعر والباحث الفلسطيني محمد الأسعد اتكأ على الغموض الذي أحاط بسيرة ابن فضلان، وكتب هو الآخر رواية تُصَنَّف في أدب الرحلة الخيالية عنوانها (شجرة المسرات: سيرة ابن فضلان السرية)، ولا يداخلني أي شك أنها رواية مختلفة وخارجة عن الركب ومارقة أيضاً، ويبحر كاتبها دون بوصلة، ودون شراع، وليس في قاربه سوى نواياه في معاكسة الريح، والكثير من خبز الموهبة، وماء الشجاعة. لأنه شاعر، وباحث، ومترجم، وروائي، ومثقف، ويهوى التجريب، ولأنه قبل كل ذلك وبعده، (لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب)، فإن محمد الأسعد في روايته هذه يخترع (ابن فضلانه) هو، ويحركه على رقعة الوجود، يجتاز به الأمكنة والأزمان، ويعبر به مخاضات الفكر والفنون والفلسفة، ويكتشف معه وبه دهاليز السياسة وممرات التاريخ الممسوخ ومتاهات الوعي الجمعي لأمّة مرتبكة، ولم تكن في يوم من الأيام قادرة على الإمساك بالحقائق، وهي ترزح تحت ركام هائل من الإحساس بفقدان الهويّة. والرواية هكذا، وكما تبدو لي شخصياً، خلطة سحرية من الشعر والحكايات والسِيَرْ العابرة لمئات الأشخاص: المقتدر، ابن فضلان، الحلاج، ابن يونس، محمد بن العلويِّ، المأمون، كراتشكوفسكي، ابن جلاء، ابن الفرات، ابن سينا، التوحيدي، ابن عطاء، ابن سليمان، ابن الموفق، أرسطو، هايزنبرغ، بوهر، عيّاد الزهراوي، ديستويفسكي، أسامة بن منقذ، ياقوت الحموي، امرؤ القيس، القيصر نيقولاي، شكسبير، دانتي، روسو، الجاحظ، الأصمعي، أبو نواس، ابن زرعة، ابن عربي وآخرين. وليست أسماء الأَعلام وما يمثلونه من مرجعيات هي الكثيرة فحسب، بل الأمكنة أيضاً: بغداد، بخارى، بلاد البلغار، بطرسبرغ، البلطيق، باريس، روما، فنلنده، القوقاز، التيبت، الهند، مصر، جنيف، الصين، اليونان. وكذلك الأزمنة ومدارس الفكر والنظريات، بدءاً بالزندقة ووصولاً إل التصوف ومروراً بفلسفة الاحتمال والكمومية (الكوانتم). والسؤال: كيف يمكن لرواية أن تحتمل كل هذا العبء من التواريخ والأمكنة والأبطال والأفكار؟ وكيف يمكن لسيرة ابن فضلان السرية أن تتوضح معالمها؟ الكاتب محمد الأسعد يكاد يروي بهذه الرواية الصعبة على القارئ العادي متاهته هو، في رحلته الممتدة من قريته الفلسطينية (أم الزينات)، إلى أن استقر في الكويت. رواية (شجرة المسرّات) على صعوبتها وغموضها، رواية جميلة وأخاذة، وشحنتها التخييليّة تصدم القارئ، ولغتها تنتمي إلى عوالم الشعر أكثر مما تنتمي إلى النثر. هي صفحة ثانية من التجربة الروائية لمحمد الأسعد، إذ أن الصفحة الأولى هي روايته (حدائق العاشق) التي تتسم هي الأخرى بلغة شعرية رفيعة، ما جعل محمد الأسعد يختار مقاطع منها، ويفرد لها فصلاً مستقلاً في الجزء الأول من (الأعمال الشعرية). فقط رواية (أطفال الندى) تتمسك ببعض قواعد الكتابة الروائية وتقاليدها، لكن هاجس التجريب وتجاوز المألوف هو النهج الذي يمسك بقلم الكاتب الأسعد وفكره وإبداعاته المتميزة، وهذا الهاجس هو البطل الحقيقي لرواية (شجرة المسرات) التي جاء في إهدائها لي مايلي: (هذه فاتحة إلى عوالم ربما تكون فاتحة لطريقة حياة...)، وهي فعلاً كذلك، وأرى فيها (اليوتوبيا) التي يحلم بها الأسعد، فهي جمهورية فاضلة بالمعنى الفلسفي النظري، جمهورية تمجد الفكر والفن والثقافة، وترفرف على قلاعها أعلام الحرية، ومواطنوها من أهل الكتب، وتقودها النخب الثقافية على شاكلة أسماء الأعلام الذين ذكرتهم آنفاً، وهي جمهورية المسرّات! خاتمة كل كتابة مشروع رحلة سيبقي (أدب الرحلة) خالداً في سجلات الإبداع البشري، لأنه لصيق بالبوح الإنساني، ويمتزج فيه الأمل والحلم بالمعرفة، وتنبع خصوصيته من التجوال الحر في الزمان والمكان والأفكار، وهو فوق ذلك الكشاف الحقيقي لمعنى حركة الإنسان على هذه الأرض.
مشاركة :