محمود المليجي... شرير الشاشة (1-10)

  • 5/22/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

منذ دخوله عالم التمثيل في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، لاحقت الفنان محمود المليجي (1910 - 1983) أدوار الشر في السينما والمسرح والدراما التلفزيونية، وتحوَّل ابن تاجر الخيول إلى ممثل قدير ضلّ طريقه إلى العالمية، وأيقونة حاضرة في أذهان المخرجين، وتعددت ألقابه مثل «عملاق الشر» و«أنطوني كوين العرب» ليصبح «نجم شباك» من طراز خاص، وعلى مدى نصف قرن، حظي بتقدير النقاد وجمهور الفن في العالم العربي. ترك المليجي رصيداً ضخماً من الأعمال الفنية، تراوحت بين 750 فيلماً، و320 مسرحية، وعشرات الأدوار في الدراما الإذاعية والتلفزيونية، وبدا مشوار حياته حافلاً بمواقف وأحداث مثيرة، وتحولات جرفته إلى عالم التمثيل، ليرتدي أقنعة الشرير والطيب والريفي والمحامي وغيرها، ويسطر بموهبته الطاغية تاريخاً متفرداً بين أقرانه في هذا المجال. بدأت الرحلة في 22 ديسمبر 1910 في حي «المغربلين» الشعبي بالقاهرة، حيث ولد محمود حسين المليجي، لأب أصله من قرية «مليج» بمحافظة المنوفية (شمال القاهرة) يمتهن تجارة السيارات والخيول العربية الأصيلة، وفي دروب «المغربلين» عاش الابن محمود مهد طفولته وصباه، وتفتح وعيه على أهم المراحل في تاريخ مصر الحديث، وتنامى لديه الشعور الوطني الرافض للاحتلال البريطاني، وقيام ثورة 1919. في هذه الأجواء، حرص التاجر حسين المليجي على إلحاق ابنه محمود بالمدرسة الابتدائية، وطبعاً كان طامحاً في أن يكمل ابنه تعليمه إلى المراحل العُليا، وأن يصير طبيباً أو مهندساً أو محامياً. ولكن الصبي خايلته أحلام أخرى، فشغف بالموسيقى والغناء، وحين انتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الخديوية (بشارع درب الجماميز بالسيدة زينب) اتجه مباشرة نحو غرفة الموسيقى ووقف مرتبكاً إزاء أستاذ الموسيقى محمد عبدالوهاب، وما إن همّ بالغناء حتى أوقفه موسيقار الأجيال بإشارة من يده، وقال له: «من فضلك اطلع بره.. صوتك نشاز». سراب الأحلام هكذا انقطع المليجي عن حصة الموسيقى بفرمان من مطربه المفضل، وتحوَّلت أحلامه إلى سراب، وفي ذلك الوقت اعترض والده على إهمال ابنه دروسه، وانشغاله بهوايات أخرى، لا سيما أن غالبية العائلات المصرية آنذاك، كانت ترفض أن يمتهن أبناؤها الغناء والتمثيل، وتعتبر أصحابها «مغنواتية ومشخصاتية». ورغم عثرته الأولى مع الموسيقى فإن تياراً آخر جرفه، إذ التحق بفرقة التمثيل في المدرسة، وأبدى حماسة في الوقوف على خشبة المسرح مع أقرانه، وتجسيد الأدوار التي قام بها عمالقة التمثيل في هذا العصر، كيوسف وهبي ونجيب الريحاني وعزيز عيد وغيرهم. لم يدرك الطالب الثانوي محمود المليجي أن هذه الفترة من حياته، ستلقي بظلالها على سنوات عمره، وأنه منذ اليوم الأول الذي صعد فيه إلى خشبة مسرح «المدرسة الخديوية» كان على موعد مع مراحل للإخفاق والنجاح والتعثر والنهوض، ليصبح هذا الممثل الفارق بموهبته، وأن عينيه المعبرتين عن انفعالاته الداخلية، واندماجه الكامل في تجسيد الشخصيات، جعلت كبار النجوم يخشون الوقوف أمامه. نصيحة الكرواني وجد المليجي ضالته في «المدرسة الخديوية» وكأنه يعيد اكتشاف مسار موهبته، وحالفه الحظ أن النشاط المسرحي كان ضمن أنشطة الهوايات المقررة في المدارس، وفور التحاقة بفرقة التمثيل تدرّب على يد فنانين كبار من أمثال جورج أبيض وفتوح نشاطي وأحمد علام وعزيز عيد، ولفت الأنظار إلى براعته في تجسيد أدوار تراوحت بين الكوميديا والتراجيديا، وصار رئيساً للفرقة. لم ينس محمود المليجي، كيف نصحه ناظر المدرسة لبيب بك الكرواني بصقل موهبته بالدراسة، لكن «عملاق الشر» لم يستجب لنصيحة الكرواني، إذ قال في إحدى حواراته الإذاعية مع الإعلامي الراحل وجدي الحكيم، إنه فور التحاقه بفرقة فاطمة رشدي، ترك «المدرسة الخديوية» واحترف التمثيل. المعلم والنشال بدأ المليجي مشواره الفني مع فرقة «فاطمة رشدي» المسرحية، بينما كان في المرحلة الثانوية، وفي ثاني أدواره على المسرح كان يُجسد دور «نشال» (لص) يخطف حقائب السيدات، وكان أول مشهد يظهر فيه دخوله على ضابط الشرطة ويداه مكبلتان بأصفاد حديد، ويقوده أحد العساكر. وحدث ذات مرة أن خرج المليجي مع صديقه، الذي كان يؤدي دور العسكري، إلى «البوفيه» بملابس التمثيل والقيد في يديه، ووقفا يشربان المياه الغازية، وفجأة ظهر مُعلم الحساب في المدرسة، والذي كان يتوقع له الفشل الذريع. وما إن رأى المعلم تلميذه مرتدياً الجلباب البلدي والأصفاد في يديه وبجواره العسكري، حتى ظنّ أن المليجي قُبض عليه فعلاً، فصاح قائلاً: «أنا قلت لك.. آدي آخرتك»، ثم التفت إلى زميله ليسأله عن الجهة التي سيقود المليجي إليها، فأدرك الزميل الممثل أن المعلم شامت في المليجي، فقال: «على قسم الشرطة»، وطلب إليه أن يضمنه حتى يخلي سبيله، لكن المُعلم تنكر للمليجي وقال إنه لا يعرفه، ثم تركهما وهرول إلى داخل المسرح. ورفع الستار وأدى المليجي دوره جيداً، وفوجئ معلمه بأنه ممثل شاطر، وبعد انتهاء العرض دخل الكواليس باحثاً عنه، وما إن رآه احتضنه وقبّله قائلاً إنه لم يكن يعلم أنه فنان موهوب، ومن يومها اعتبره أفضل تلامذته النابهين الذين ينتظرهم مستقبل مشرق، وتبدلت العلاقة بينهما إلى صداقة قوية. قبلة في الصحراء ضاق التاجر حسين المليجي بأهواء ابنه، وطرده من المنزل، بعد أن علم بانغماسه في التمثيل، وإهماله دروسه، ليدخل الصبي إلى عالم غامض. وبدت خطواته متعجلة، كأنه يسابق الزمن نحو الأضواء والشهرة، تحديداً عام 1927، ولم يتجاوز 17 عاماً. اختاره آنذاك، وبعض الوجوه الجديدة أمثال أنور وجدي وبدر لاما وإيفون جوين، المخرج إبراهيم لاما للمشاركة بأدوار صغيرة في فيلمه الصامت «قبلة في الصحراء» الذي يعد أول فيلم روائي طويل في تاريخ السينما المصرية. كان لتجربته السينمائية الأولى، صدى مغايراً في نفسه، وأدرك المليجي أن هذا الشريط الصامت، سيجلب له الشهرة، لا سيما أنه «شريط مسجل» سيشاهده جمهور كبير، ففي ذلك الوقت لم يكن معتاداً تصوير «المسرحيات». الممثل المحترف اعتبر المليجي أن بدايته الحقيقية، عندما استأجرت فرقة «المدرسة الخديوية» مسرح الفنانة فاطمة رشدي، لتقدم أحد عروضها المسرحية «الذهب» وشاهد العرض نقاد، وأثنوا على أداء الممثل الصغير، واعتقدوا أن الفرقة المدرسية، استعانت بممثل محترف. توالت الأحداث بإيقاع متسارع، وطلبت الفنانة فاطمة رشدي (1908 - 1996) ضم المليجي رسمياً إلى فرقتها، وفي ذلك الوقت، كانت نجمة ذائعة الصيت وتلقب بسارة برنار الشرق، ويخرج أعمالها زوجها المخرج عزيز عيد، ويفد إلى مسرحها الجمهور من أنحاء العالم العربي. وحينها أدرك المليجي أنه على أعتاب مرحلة جديدة، فألقى نظرة الوداع على «المدرسة الخديوية» وكان كلما ابتعدت خطواته تلاحقه أصداء خافتة لنصيحة الناظر لبيب الكرواني: «يا محمود إدرس لتصقل موهبتك». وفي رواية أخرى للمؤرخ الفني الراحل عبدالله أحمد عبدالله، قال إن المليجي بعدما أنهى دراسته في «المدرسة الخديوية» أصبح في مفترق طرق، وتردد على شارع عماد الدين للبحث عن فرصة للتمثيل، إذ كان يزدحم بدور المسرح وتجمعات الفنانين. وذات يوم صادف الناظر لبيب الكرواني، وكان الأخير يعرف أنه يعشق التمثيل، فسأله عن أحواله، وحاول أن يقنعه بأن يعود إلى منزله، ويكمل تعليمه العالي، ولكن تلميذه أخبره بأنه سيحترف الفن، فأخذه من يده إلى فاطمة رشدي، وقال لها: «هذا الولد موهوب وإن كنت أتمنى أن يكمل تعليمه، لكنه يريد أن يصبح ممثلاً»، فوافقت على إلحاقه بفرقتها. المليجي استحضر نصيحة الكرواني في أوقات عصيبة صادفته في بداية احترافه التمثيل، لكن الممثل الصغير أصابته نشوة الفرح، وهو ينضمّ إلى أكبر فرقة مسرحية في مصر أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، ليقف إلى جانب فاطمة رشدي في أدوار صغيرة، ويتقاضى أربعة جنيهات عن كل ليلة عرض لمسرحيات عدة، من بينها «مجنون ليلى» و«667 زيتون». في ذلك الوقت، كانت رشدي تبحث عن وجه جديد، ليقوم بأدوار البطولة إلى جانبها، بعد خلافات مع بطل الفرقة الفنان أحمد علام، واستطاع المليجي أن يلفت نظرها بموهبته، فقررت أن يحل بديلاً لعلام، وفي غمرة تألقه، تضاعفت المشكلات وحُلت الفرقة. اعتزال مبكر كانت تلك الفترة إحدى أصعب الفترات في حياة المليجي، وحدث أن أستاذه المخرج عزيز عيد قال له ذات مرة: «أنت مش (لست) ممثل ولا تصلح للتمثيل»، ويومها اعتصره الألم والحزن وكاد أن يبتعد عن التمثيل، ويبحث عن مهنة أخرى. ولكن بعد فترة أخبره أحد المقربين من عيد، أن الأخير قال ذلك ليحميه من الغرور، وأنه مقتنع تماماً بموهبته، وأراد منه أن يجتهد أكثر في استيعاب الشخصية، وتجسيدها جيداً. لم يكن حلّ فرقة فاطمة رشدي الصدمة الأولى التي تلقاها المليجي، ففي العام 1932 رشحته رشدي ليقف إلى جانبها بطلاً في فيلم «الزواج»، من تأليفها وإخراجها. دارت أحداثه الميلودرامية حول شخصية «سلمى» ابنة الرجل الثري، التي تحب ابن عمها الفقير (المليجي). وتنتهي الأحداث على نحو مأساوي بموت سلمى. أشار ملصق الفيلم إلى أنه عبارة عن «رواية أخلاقية تبحث في موضوع الزواج وما ينتج عنه من ضرر لأسرنا الشرقية من محافظتها على التقاليد القديمة التي تهدد كيانها»، وقد صوِّرت المشاهد بين استوديو في فرنسا وآخر في إسبانيا، إلى جانب عدد من المشاهد في محل «كوداك» في القاهرة. وانتظر المليجي بشغف رد فعل الجمهور، لكن الفيلم حين عُرض في صالات السينما في 17 يوليو 1933، لاقى فشلاً ذريعاً، ونال من نجومية بطلته فاطمة رشدي، وتبددت أحلام الممثل الشاب في أول بطولة مطلقة له على الشاشة البيضاء، وتضاعفت معاناته، حين حمَّله الصانعون المسؤولية، وبعدها أغلقت في وجهه أبواب المسرح والسينما، فقرَّر اعتزال التمثيل. كانت فترة التوقف عن العمل عصيبة بالنسبة إلى المليجي، فمع تعطله عن العمل توقف مصدر دخله، وكان حينها يسكن في درب الجماميز في حي السيدة زينب، وكان جيرانه في المنطقة يتوقعون ما سيحدث له من عدم الاستقرار، لكنه وجد منهم معاونة كبيرة، فذات يوم حُجز على شقته لتأخره في دفع الإيجار، ولم يكن مالك العقار من أهل الحي، فرفع قضية، وأخذ أمراً بالحجز على الشقة، ولم يبلغ المليجي والدته بالأمر كي لا يضايقها، وجلس في انتظار الفرج. وفي أحد الأيام فوجئ المليجي بمن يدق جرساً إزاء الباب، ووجد رجالاً أتوا لفتح مزاد على محتويات الشقة، وكان «عم علي» بائع الفول جالساً في محله، وتساءل عن الأمر، وفوراً ركض إلى منزله، وأحضر مصوغات زوجته، وعاد إلى محله، وأخذ حصيلة اليوم، كذلك المعلم عز الجزار فعل الأمر ذاته، وتجمع أصحاب المحلات الأخرى، وهرعوا إلى المنزل، ودفعوا قيمة الإيجار المتأخر، وكانت تلك لمحة إنسانية امتاز بها هذا الحي الشعبي. لم يصمد المليجي إزاء قرار الاعتزال المبكر، وبدت أيام التمرينات والعروض المسرحية كأنها ذكريات بعيدة، ولكنها تثير في داخله الحنين إلى الفن الذي عشقه، وانجرف معه بعيداً عن «المدرسة الخديوية»، وفكر ماذا سيفعل والأبواب موصدة، ومن سيمنحه فرصة جديدة بعد هذا الفشل! وفي غمرة تفكيره، برقت في رأسه فكرة أن يذهب إلى «فرقة رمسيس» التي أسسها الفنان الكبير يوسف وهبي، وكانت أبرز الفرق التي تنافس مسرح فاطمة رشدي. مسرحيات شكسبير في الشارع في عشرينيات القرن الماضي، كانت المسارح المتنقلة تقصد الموالد، وتنصب خيامها في الشارع، وتقدم عروضاً مسرحية، ويتحلق حولها الجمهور. شاهد المليجي في الحي الشعبي حيث عاش مسرحيات شكسبير مثل «هاملت» و«عطيل» وروايات عالمية عدة، وكان يقدمها ممثلون هواة برؤيتهم الفنية المحدودة، ولكنهم كانوا طامحين في النجاح. كذلك اعتمدت عروض كوميدية على الارتجال، وإضحاك الجمهور من خلال مواقف هزلية، وفنون التراث مثل خيال الظل، والراوي الشعبي الذي يعزف على آلة «الربابة» ويحكي قصص بطولات العرب الأولين. ومن هنا تنامت لدى المليجي الروح الفنية، وصُقلت موهبته في التمثيل. الحي الشعبي... بلاتوه سينمائي اعتبر المليجي أن الحي الشعبي، أول «بلاتوه سينمائي» في حياته، وأن مسالك الحياة لم تنسه أجمل سنوات عمره، وهناك وجد الصورة الفنية الكاملة، حيث أصحاب الحرف التراثية، كالنحاسين وصانعي الحقائب والخيامية، وكانوا فنانين مهرة، يمتلكون موهبة فطرية، ويخلصون لإبداعهم، فضلاً عن المودة والتواصل بين أهالي الحي، وبينهم شخصيات شديدة الثراء الإنساني، وتتمتع بأخلاق عالية، وروح «ابن البلد الشهم». حدث ذلك في حقبة العشرينيات، حيث نشأ المليجي، وتنقل بين أحياء شعبية متجاورة، فأصبحت القاهرة القديمة عالمه الأثير، ومهد طفولته وصباه، واستلهم أسلوبه في أداء شخصية «ابن البلد» بأطيافها كافة من خلال استحضار خبراته المختزنة، ومعايشته للشخصية التي يجسدها، ليترك لدى الجمهور انطباعاً بواقعيتها، وكأن الممثل ذاته هو «الطيب» و«الشرير» والمجرم»، وتلك البراعة لم تكن وليدة المصادفة، بل تنم عن موهبة طاغية، وعشق جارف لهذا الفن. في حوار إذاعي مع الإعلامية حكمت الشربيني، استعاد المليجي ذكريات طفولته بقوله: «أتذكر، عندما كنت أدخل إلى حي «المغربلين» وأرى محل «عم فرج» الصائغ، وكان دائماً يأتي بالملاليم (المليم عملة مصرية معدنية قديمة)، ويطليها بالذهب، ويفرقها على أطفال الشارع من دون مقابل، وكنا نفرح بها، وأمامه كان يوجد «عم متولي» بائع الألبان، وكان فتوة من الفتوات، ويتميز بطول القامة، لكنه لم يكن مفترياً، بل يدافع عن الحق. وعلى ناصية «دريسة حسين» كانت تجلس «عزيزة الفحلة» وأمامها أجولة علف الماشية، وكانت «فتواية» وهي وزوجها كحاكمين كانا يدافعان عن الضعفاء». عاش المليجي طفولته في المغربلين، وبعدها انتقل إلى الحي العريق «السيدة زينب»، حيث الحلمية ودرب الجماميز، والأخير أمضى فيه الفنان أكبر وقت في حياته، وتعامل مع أهل هذه المنطقة، مثل «عم عز» الجزار الذي لم تكن النقود تدخل محله، إذ يأخذ الزبائن ما يريدون، ويدفعون أو لا يدفعون. كان السكان يعيشون كأسرة واحدة. كذلك في «بركة الفيل» و«الحلمية»، وجميعها مناطق أخذت من عمره سنوات كثيرة، وصقلت في نفسه حبه للفن.

مشاركة :