امتلك الفنان محمود المليجي موقعاً مميزاً في سينما الثلاثينيات والأربعينيات، برصيد تجاوز مئة فيلم. وفي الحلقة الفائتة، تتابعت الأحداث حول قصته مع الشعر المستعار وأدوار الشر، واكتشاف موهبته في التأليف السينمائي، وندمه على اقتحام مجال الإنتاج، فضلاً عن تعاونه الفني مع «ملك الترسو» فريد شوقي، ومحسن سرحان وأنور وجدي، ودخوله في اختبار صعب، عندما أعاد تمثيل أحد أدوار أستاذه زكي رستم. تخطى محمود المليجي بعزيمة «المغامر» أصعب فترات حياته لينفتح القوس منذ عام 1930، ويضم أفلامه الأولى التي شكلَّت ملامح حضوره على الشاشة. لكنه اعتبر أن بدايته الحقيقية كانت في العام 1936، عندما وقف إلى جانب أم كلثوم في أول أفلامها «وداد» إخراج فريتز كرامب، ونجح الفيلم بفضل شعبية كوكب الشرق، خصوصاً أن قصته كانت جيدة. دارت الأحداث في عصر المماليك حينما نشأت قصة حب بين الشاب تاجر وجارته «وداد» التي تتمتع بصوت ملائكي، قبل أن يسطو قطاع طرق على قافلته التجارية ويستولوا على بضاعته التي تمثل رأس ماله ويضطر إلى بيع حبيبته في سوق الجواري. وحين يستعيد قواه ويسترد تجارته يعاود شراءها. نجاح «وداد» أضفى بريقاً على محمود المليجي بالتبعية مثلما حقق الأمر ذاته لفريق العمل، وربما لهذا السبب اختاره المخرج إبراهيم لاما بعد ثلاث سنوات لأداء شخصية «ورد» في «قيس وليلى» 1939، وهو العام الذي رحلت فيه والدته، وتزوج من رفيقة عمره الفنانة علوية جميل. تأجيل المذكرات حوادث عاصفة واجهت المليجي، ودفعته في سنوات لاحقة إلى أن يؤجل كتابة مذكراته الشخصية، التي قرَّر أن يسطرها بقلمه. وبدت حياته الخاصة كجبل من الثلج لا تظهر منه سوى قمته، ليغيب في ذروة التألق ومعه كثير من الأسرار، وكأننا إزاء شريط سينمائي غامض، وحلقات مفقودة، أسقطها كاتب السيناريو عن عمد، ليعلق في ذهن المشاهد، هذا الصعود المتنامي لممثل موهوب، عركته التجارب، حتى صار أحد أبرز النجوم في تاريخ السينما المصرية. المليجي سجل أرقاماً قياسية لعدد مرات ظهوره على الشاشة (750 فيلماً) ولا ينافسه سوى فريد شوقي، ودخل «الطيب والشرير» في «ماراثون» غلب عليه التشويق والإثارة، ولم يجرب أحدهما أن يرتدي قناع الآخر، باستثناء أدوار في بعض أعمالهما الأولى، مثل «المغامر» 1948، ودارت أحداثه حول شابين مستهترين، لكن أحدهما يتوب (المليجي) ويلقن الآخر درساً قاسياً، وبظهور كلمة «النهاية» يتبادلان القناعين مُجدداً، ليلتقيا في أكثر من 300 فيلم خلال مشوارهما الفني. الشرير والدجاجة هام «الشرير» في عالم الفن، منذ انتقاله مع أسرته من حي «المغربلين» إلى «الحلمية» ليترك «المدرسة الخديوية»، وفشلت محاولات والده ليكمل تعليمه العالي فطرده من المنزل، وكان يقطع المسافة من مسكنه في «درب الجماميز» إلى «الحلمية» ويختلس خروج والده ليمضي بعض الوقت مع والدته وإخوته. ولا نعرف هل ذابت الخصومة بين تاجر الخيول حسين المليجي وبين ابنه محمود، أم ظل رافضاً احترافه للتمثيل، حتى وفاته عام 1941. يفسر ذلك بريق الحزن الذي يلتمع في عيني عملاق الشر وملامحه الحادة التي تنطوي على شعور بالاغتراب، والتي جعلت من لا يعرفه لا يصدق أنه يحمل قلب طفل، ويخشى من خياله. وأوقعته عيناه في كثير من المواقف الطريفة، لا سيما مع الممثلات الشابات في ذلك الوقت، ومنهن زبيدة ثروت، التي وقفت إلى جانبه في أفلام مثل «يوم من عمري» 1961 للمخرج عاطف سالم، ولكنها لم تلتقه في أي مشهد. وفي العام التالي، رشحها المخرج السيد بدير لبطولة «سلوى في مهب الريح» لتقف وجهاً لوجه إزاء «الشرير». بدأ تصوير المشهد، واندمج المليجي ورمقها بنظرات شرسة، فصرخت زبيدة ثروت، وفرت مذعورة. وبدوره، صرخ المخرج «ستوب Stop» وابتسم المليجي مدركاً ما حدث، وأشعل سيجارته وخرج من «البلاتوه» فسألها المخرج: «ماذا حدث؟»، فأجابت: «أنا خايفة من الأستاذ محمود». وتعالت ضحكاته ومعه الفنان حسين رياض، وقال الأخير: «ماتخافيش من المليجي ده لو شاف فرخة (دجاجة) مذبوحة يُغمى عليه». لم يختلق رياض حكاية الدجاجة، بل كانت حقيقة، وجرت أحداثها في مبنى نقابة الممثلين في بداية الخمسينيات، وكانت تقع في شارع عمادالدين (وسط القاهرة)، وتضم حديقة يجلس فيها الفنانون في ليالي الصيف، ومدخلاً خلفياً إلى المطبخ. ذات مساء جاء المليجي، وطلب دجاجة للعشاء، وبعد دقائق أراد شيئاً آخر، ولم يجد النادل، فتحرك ناحية المطبخ، ولكنه لم يظهر ثانية، وفوجئ الرواد بالنادل يهرول ناحيتهم، ويصيح: «إلحقوا الأستاذ المليجي مات». هرع الجميع، ليجدوه ممدداً على الأرض، ومغشياً عليه، وبجواره دجاجة مذبوحة وتسيل دماؤها، وعندما أفاق شرح لهم كيف أنه رأى هذا الطباخ «المجرم» يذبح الدجاجة، وانهار الجميع ضحكاً. غول التمثيل رغم هذه المواقف التي تدل على رهافة مشاعره، وحساسيته المفرطة، فإن عملاق الشر ظل مُهاباً من زملائه، إذ كانوا يعلمون أنه «غول تمثيل» ويتأهبون جيداً قبل الوقوف إلى جانبه، ومنهم الفنان الكبير توفيق الدقن، عندما واجهه لأول مرة في فيلم «أموال اليتامى» 1952. دارت الكاميرا، لكن الدقن بدا تائهاً، والمخرج جمال مدكور يصرخ: «يا أستاذ دقن ركز في الدور»، وفي هذه اللحظة شعر المليجي بارتباك هذا الممثل الصاعد (آنذاك)، وأن أمراً ما يشغل تفكيره، وطلب إلى المخرج وقتاً للراحة، واصطحب معه الدقن إلى غرفته. صحَّت توقعات «غول التمثيل» حينما قال الدقن: «سبب ارتباكي هو أنت.. هل تعلم يا أستاذ محمود أن والدتي تقف بجانبي كي أعمل بالتمثيل، بينما أبي يرفض أن أمتهن هذه المهنة، ولكن والدتي لها شرط وحيد». فسأله المليجي: «إيه هو الشرط ده؟»، فقال: «أن أكون مثل محمود المليجي»، فضحك الأخير قائلاً: «اعتبر نفسك محمود المليجي». كان ذلك الموقف، بداية صداقة وزمالة بين المليجي والدقن، وظل الأخير ملازماً لـ«الشرير» في أعماله كافة، لا سيما أفلام «الأكشن» ليصبح الضلع الثالث في مثلث «الشر» مع فريد شوقي «ملك الترسو» وغريمه «شرير الشاشة» فقد سبقاه إلى النجومية، وظل يتبارى معهما في الأداء، وتنوعت أدواره مثلهما بين الطيبة والشر، ليؤكد بصمته الخاصة في السينما والمسرح والدراما التلفزيونية. ومن الأفلام التي جمعت ثلاثي الشر السينمائي في عمل مميز «ملوك الشر» عام 1972، إخراج حسام الدين مصطفى. اعتبر المليجي أن أدوار الشر التي مثلها زميله فريد شوقي تبين أنه ليس مجرماً بالفطرة، لكنه مدفوع إليها مثل دوره في «جعلوني مجرما» 1954، للمخرج عاطف سالم، ويدور حول صبي تدفعه الظروف إلى التشرد في الشوارع، لتلتقطه عصابة للنشل، فيكبر في عالم الجريمة ويدخل السجن، وعند خروجه توصد في وجهه أبواب العمل الشريف، وطوال الفيلم يشعر الجمهور بالتعاطف مع هذه الشخصية. أما توفيق الدقن، فكان منساقاً إلى الجريمة ومن الممكن أن يتخلى عنها، فلا مكان للشر في داخله، وهذه المقومات جعلت «عملاق الشر» مختلفاً عن زميليه، وكأن المخرجين تعمدوا أن يظل موصوماً بالإجرام، ويكره الجمهور الشخصيات التي يؤديها، مثل «المعلم عرفان الفرارجي» الرجل الثاني في عصابة زكي رستم، ومكائدهما ضد فريد شوقي «الشاويش حسن» في رائعة المخرج نيازي مصطفى «رصيف نمرة 5» 1952، كذلك شخصية «عباس الزفر» الذي يحاول أن يخطف زهرة العلا من حبيبها في فيلم «إسماعيل ياسين في الأسطول» 1957 للمخرج فطين عبدالوهاب. وفي فيلم «المبروك» 1959، للمخرج حسن رضا، خلع المليجي ثوب الإجرام التقليدي، ليرتدي ملابس دجال، ويلقي بشباكه على السذج، بتحريض من زوجته «بائعة العلكة» الفنانة سميحة أيوب، وتتوالى الأحداث لتفضي إلى نهاية غير متوقعة. وبتراكم هذه الأدوار، استخلص المليجي فلسفته الخاصة كممثل، وأن بذور الخير والشر كامنة داخل الإنسان، وتعجل الظروف المحيطة بثمارها، وأن أفلامه حملت رسالة إلى المجتمع، ورسَّخت لكراهية شخصية المجرم. ومن هنا جسَّد الفنان محمود المليجي نقيض ذاته، ولولا خبراته المتراكمة، واندماجه في الشخصية، لكشف عن «الطيب» في داخله، لكنه لم يتغطرس على دور الشرير، واعتبر أن الكتاب والمخرجين الرواد، قدموا أقصى ما لديهم، وربما طغت على أعمالهم لغة الخطاب المباشر، وكأنهم يلقون بالمواعظ في وجه الجمهور، وهذا الأمر انتقل من المسرح ـ آنذاك ـ إلى السينما، ومعه النمط الأدائي الصارخ، وأحياناً المفتعل و«المونولوج» الطويل، فقد كان «الفن السابع» في مهده، وكان مُهماً أن يقطع مرحلة التأسيس، لتظهر تقنيات متطورة، وأداء مختلف، قد يصل في بعض الأحيان إلى الهمس، وحتى أدوار الشر أصبح ممكناً تجسيدها، وكأن الممثل يرتدي قفازاً حريرياً. لم يكن سهلاً أن يندرج المليجي في خانة البطل «الطيب» وأن يمنحه المخرجون في الأربعينيات أدوار الفتى الأول، ولم يتمرد على هذا التصنيف، واعتبره قضاءً وقدراً، وصارت أدوار الشر والجريمة ماركة مسجلة باسمه، وشارك على مدار عقدين في أكثر من مئة فيلم، رسَّخت حضوره على الشاشة، وكأنها فترة انتشار لممثل صاعد، لا يملك حق الاختيار للجيد ورفض الرديء. تأليف وإنتاج ولعل الانتعاش السينمائي في الأربعينيات صادف هوى في نفس المليجي وحقق له استقراراً مادياً، وقدراً كبيراً من الشهرة، ودفعه إلى دخول مجال التأليف والإنتاج السينمائي، فقد استشعر حينها بأن ثمة أفلاماً مثلها، لا ترتقي إلى الجودة الفنية. ولكن مواهبه الإضافية لم تصمد إزاء فقر إمكاناته المادية، وطموحه إلى تطوير صناعة السينما في بلده، ولم يعزف منفرداً في هذا الاتجاه، فقد انتهت هذه المرحلة بظهور مواهب واعدة في كتابة السيناريو والإخراج والتصوير والديكور وغيرها، وبات المنتجون أكثر وعياً، ومنحوا فرصة ذهبية، لتأصيل السينما الواقعية، كرافد مهم لفيلم «العزيمة» 1939 للمخرج الرائد كمال سليم. وفي الخمسينيات، تجرأ المخرجون بأفلامهم الواقعية، وتعامل المليجي مع أحمد كامل مرسي، وصلاح أبوسيف، ويوسف شاهين، وكمال عطية، وكمال الشيخ، ووجد ضالته في أفلامهم التي تشتبك بموضوعات جادة، وتعبر عن نبض الشارع المصري، وتحمل تطوراً هائلاً في التقنيات، وتحريك الكاميرا، وزوايا التصوير، والاهتمام بأسلوب أداء الممثل، والنأي به عن الطابع الميلودرامي، واستئثار بطل الفيلم بالمشاهد كافة، والاقتراب أكثر من مفهوم البطولة الجماعية. ودارت الكاميرا لتعيد اكتشاف موهبة «الشرير» في أفلام «ابن النيل» عام 1951 و«جميلة» 1958 للمخرج يوسف شاهين، و«المنزل رقم 13» 1952 للمخرج كمال الشيخ، و«الجريمة والعقاب» 1957، المأخوذ عن قصة الكاتب الروسي فيودور ديستويفسكي، وسيناريو محمد عثمان، وإخراج إبراهيم عمارة، وشارك في بطولته شكري سرحان وماجدة وزهرة العلا وعبد المنعم إبراهيم. بين السماء والأرض أفكار مجنونة عايشها المليجي مع مخرجي الواقعية ليجد نفسه معلقاً «بين السماء والأرض» في عام 1960، ومعه زملاؤه عبدالسلام النابلسي، وهند رستم، وعبدالمنعم إبراهيم، وعبدالمنعم مدبولي، بأمر من المخرج صلاح أبوسيف، وكاتب القصة نجيب محفوظ. تدور أحداث الفيلم في إطار كوميدي، داخل مصعد تعطل بأشخاص لا يعرفون بعضهم بعضاً، ولكل منهم حكاية، وينتمي إلى شريحة اجتماعية مختلفة، ويراودهم الأمل في الخروج سالمين من هذا المأزق، وأن يتخلوا عن أخطائهم السابقة. ويعد «بين السماء والأرض» مغامرة سينمائية للمخرج صلاح أبوسيف ونجوم الفيلم، وقد تعاونوا معه في أفلام أخرى، باستثناء المليجي الذي أدى دور «النشال» ثم غادر «المصعد» برصيد قليل من الأعمال مع مخرج الواقعية، مثل «المنتقم» 1947 و«لك يوم يا ظالم» 1951، و«الوحش» 1954، ولم يتكرر اللقاء بينهما خلال السنوات اللاحقة. رفض تهريب آثار مصر في فيلم عالمي في عام 1954، رفض محمود المليجي تمثيل دور مهرب آثار في الفيلم العالمي «وادي الملوك» الذي صوِّر في مصر، وقال لمخرجه روبرت بيروش: كيف أقبل تمثيل دور رجل مصري يهرب آثار بلده، بينما العالم الأجنبي «النجم روبرت تايلور» يحمي آثار مصر من هذا المهرب الخطير»! وتابع المليجي بثقة: «لا يمكن أن تجد فناناً مصرياً يقبل هذا الدور»، وهو ما حدث فعلاً، واقتنع المخرج بوجهة نظر المليجي، وأسند الدور إلى ممثل يوناني. وكان الفيلم بطولة روبرت تايلور، وإليانور باركر، ورشدي أباظة، وسامية جمال، ومحمود السباع. وبعد عامين جاءته فرصة أخرى، عندما طار إلى إسبانيا، للمشاركة في فيلم من إنتاج ماري كويني وشركة إيطالية بعنوان «روما فيلم»، واستغرق التصوير أربعة أشهر، وتعامل باحترافية مع زملائه من الممثلين الأجانب، وانبهر المخرج الإيطالي بأدائه، لكن ارتباطه الوثيق بزوجته علوية جميل، جعله يتراجع عن أحلام العالمية. وربما يُخفى على كثير من مؤرخي الفن السابع أن المليجي كانت له تجربة أخرى مع السينما العالمية، حين شارك في فيلم أميركي في أوائل الخمسينيات، وكان ذلك في وقت أرادت السينما العالمية أن تصنع فيلماً يتحدث عن عادات العرب وتقاليدهم، فاستعانت بفناني مصر وكان من بينهم كل من محمود المليجي وعباس فارس وحسن البارودي، في الفيلم الأميركي Egypt by three عام 1953. شاركهم البطولة كل من جوزيف كوتين، وجاكي كرافن، وأخرج الفيلم فيكتور استلوف. أما الأحداث فتدور في إطار ثلاث قصص، الأولي عن القتل والعنف، والثانية عن الحج، والثالثة عن الحياة في الصحراء. وكانت اللغة معوقاً إزاء المليجي لخوض مزيد من التجارب العالمية، إذ أقرّ بنفسه في لقاء إذاعي قديم بأن عدم إتقانه الإنكليزية، وقف حاجزاً إزاء مشاركته في الأفلام الأجنبية، وأنه اعتذر عن ترشيحات لأدوار كثيرة في هووليود، لا سيما بعدما لفت الأنظار في النسخة العربية لفيلم «القادسية» عام 1979 وتجسيده الدور الذي قام به النجم العالمي أنطوني كوين، وبشهادة النقاد أنه تفوق على بطل «زوربا» بأدائه العفوي والتلقائي، لذلك أطلقوا عليه «أنطوني كوين الشرق».
مشاركة :