من المظاهر الرمضانية الجميلة التي اختفت أو كادت أن تختفي ظاهرة «المسحّر»، هذا الشخص الذي كان يعلق طبلاً كبيرًا على صدره وهو يجوب الأحياء والفرجان قبيل الفجر بساعة ليذكر الناس، خاصة النائمين منهم، أن عليهم أن يستيقظوا لتناول وجبة السحور قبل فوات الأوان. وظاهرة المسحّر كادت أن تختفي في السنوات الأخيرة بسبب ظهور القنوات الإذاعية والتلفزيونية التي أغنت عن متابعة دقات المسحر في الليل البهيم وقبل حوالي ساعة من أذان الفجر. كان المسحر بطبله الكبير الذي يعلقه على صدره ويمشي به في الحواري والفرجان يردد القول مع دقات طبله الرتيبة: «سحور يا عباد الله.. لا إله إلا الله.. توكلنا على الله»، وإذا كانت المدينة كبيرة كالمنامة أو المحرق فإنه يلزمها أكثر من مسحّر، أما القرى الصغيرة فيكفيها مسحّر واحد للقيام بإيقاظ النائمين الذين كانوا في السنوات البعيدة ينامون مبكرًا بعد صلاة العشاء والتراويح، رغبة في إدراك فضيلة السحور، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحّروا، فإن في السحور بركة»، فهذا الحديث به إشارة واضحة إلى ما تمتّعت به أكلة السحور من البركات والفضائل، سواء ما تعلّق بأمور الدنيا، أو توجّه إلى شؤون الآخرة. إن أوّل بركات هذه العبادة أن المسلم يقوم بها اتباعًا للسنّة واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان مداومًا عليها، وهذا ما تُشير إليه الأحاديث الشريفة، فقد جاء عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: «تسحّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة» فقيل له: كم كان بين الأذان والسحور؟ فقال: «قدر خمسين آية»، وكان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتّبعوه فيشقّ على بعضهم، ولو تسحّر في جوف الليل لشق أيضًا على بعضهم ممّن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العبادة أنه كان كثيرًا ما يُذكّر أصحابه بها، وهذا واضح في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، إذ قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السّحور في رمضان، فقال: «هلمّ إلى الغداء المبارك». وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسَّحور». وجاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «السَّحور بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم ماءً». وأما ثاني بركات السَّحور وفضائله أنه مخالفة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين حُرموا من هذه المنحة الإلهيّة، فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر». وثالث بركاته أنه تقوية للعبد على العبادة وزيادة في النشاط، لعموم الاحتياج إلى الطعام، ولو ترك السَّحور لكان في ذلك مشقّة على البعض ممّن لا يحتمل طول وقت الإمساك عن الطعام، فقد يُغشى عليه، وقد يفضي ذلك إلى الإفطار في رمضان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «لا ضرر ولا ضرار». ولعلّ هذا السبب الذي لأجله شُرع تأخير السَّحور؛ ليكون فرصةً للنفس كي تأخذ نشاطها كاملًا، فقد كان عبدالله بن مسعود يعجل الإفطار ويؤخر السّحور، ويقول: «هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع»، وعن سهل بن سعد قال: «كنت أتسحّر في أهلي، ثم يكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم». ورابع بركات السحور اليقظة في وقتٍ مباركٍ يتنزّل فيه الرّب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، فيقول: (هل من سائل يعطى؟ هل من داعٍ يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟) حتى يطلع الفجر، كما جاء في «صحيح مسلم»، ومثل هذا الوقت المبارك يملؤه الصالحون بالذكر والتسبيح والاستغفار «والمستغفرين بالأسحار»، وخامس بركاته: أن يكون في التسحّر استحضار لرحمة الله تعالى بعباده، ولو شاء لأمرهم بالوصال، فكان في ذلك مشقّة عظيمة عليهم، ومظاهر الرحمة الإلهيّة تتجلّى في كلّ تشريعاته وأحكامه وأقداره. وأما سادس بركاته فهي صلاة الله تعالى وصلاة الملائكة على العبد، ويدلّ على هذا الفضل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله وملائكته يصلون على المتسحّرين». ونذكر في الختام أن أفضل ما يتسحر به المؤمن هو التمر، فقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المتسحرين بالتمر فقال: «نعْمَ سحور المؤمن التمر»، وفضلًا عن الأجر الحاصل من امتثال هذه السنّة، فإن للتمر قيمة غذائيّة عالية، تقوّي البدن وتعينه على تحمّل أعباء الصيام طيلة اليوم، كما يقول الأطباء.
مشاركة :