جاء وقت اعتقد فيه كثير منا، ومنهم قائدنا الشهيد أبو عمار، أن دولة فلسطينية سيادية عاصمتها القدس الشرقية آتيه لا محالة. واستمر هذا الاعتقاد بضعة سنين، حتى كاد أن يصبح بمثابة إيمان موثوق به في أوساط شعبية ورسمية كثيرة. ثم تغيرت الأحوال فبدأ هذا الإيمان بالتلاشي، حتى وصل إلى حد أن لم يعد أحد يؤمن فيه، بمن فيهم الرئيس الحالي أبو مازن، حيث انكبت سلطة "حماس" على محاولة تثبيت كينونتها وإدارتها لشؤون غزة، بينما انكبت سلطة "فتح" على حماية كينونتها وسلطتها في الضفة. أما الشعب، فأصابته صدمة نفسية تركته يعاني حالة من الذهول والضياع، لا يدري فيها مستقبله أو حتى ما يريد منه. وفي غضون حالة التشتت والضياع هذه تلوح في الأفق مبادرة أميركية يبدو مما رشح منها، إنها ستعزز من حالة التشتت هذه وتدق المسمار الأخير في نعش ما جرت تسميته بـ "المشروع الوطني"، أي الدولة التي قبلها من قبلها، من باب أنها تحافظ على حد أدنى من حقوقنا الوطنية، وتزيد "المبادرة المنتظرة" من حال الإحباط والغضب الذي يعمّ الشارع الفلسطيني، بل وقيادته الرسمية أيضا. لا يمكن بالطبع إنكار هذه الحقائق كافة، أو حقائق أخرى محبطة في عالمنا العربي المحيط. لكن ما أريد أن ألفت النظر إليه، بعيداً من المحاكمات والتحليلات المتعلقة بما مضى، هو المستقبل، بما يمكن أن يكون، وأن نؤسّس على الموجود والمتوقّع حصوله، مما يمكن أن يتمخّض من آثار على وجودنا وحقوقنا كفلسطينيين، كشعب، في أماكن وجودنا كافة. في هذا السياق، يمكن وضع فرضيات واقعية لتقصّي الاحتمالات ونتائجها البعيدة والقريبة، لعل ذلك يوضح الصورة أمامنا وينتشلنا من حالة التيه والإحباط الذي نعيش، وهو ما يمكن اختصاره في احتمالات معدودة، كالتالي: أن نجد أن سلطة "فتح" قررت أن من الأنسب انخراطها في مفاوضات بخصوص المبادرة الأميركية، أو أن نجد أن سلطة "حماس" قررت أن من الأنسب أن تتفاعل مع تلك المبادرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو أن نجد أن الحكومة الإسرائيلية، بعيداً من تلك المبادرة، وبسبب عدم تكيّف السلطتين معها، قررت تنفيذ ما تراه مفيداً لها منها، أو أن نجد خليطاً من كل ما سبق. طبعاً، ستترتب على كل واحد من تلك الاحتمالات نتائج يمكن اعتبارها قواسم مشتركة، منها الهيمنة الأمنية المطلقة لإسرائيل على المناطق الفلسطينية في الضفة والقطاع، والسيادة غير المنقوصة لها على القدس، وتحسن الوضع المعيشي وربما الاقتصادي أيضا للسكان، عاجلاً أم أجلاً، وتجاهل حقوق اللاجئين، وتثبيت ما يترتب على "قانون يهودية الدولة" من تقييد للحقوق للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. ونظرة سريعة على هذه الاحتمالات تبين أن النتائج المتوقعة لا تختلف كثيراً عما هو موجود. نعم، يمكن أن تختلف بعض التفاصيل – على سبيل المثال ضم مناطق وبناء مستعمرات جديدة وأو إيجاد منطقة صناعية جديدة في سيناء أو جسر جديد أو إجراءات تجارية جديدة وأليات مستحدثة لها- لكنها جميعاً لن تنتقص من حقائق موضوعية راسخة، تتعلق بوجودنا أو بمطالبنا، إلا إذا حصل المكروه، ووجدت إسرائيل الفرصة لتقتلعنا جميعا أو أكثرنا من تراب وطننا مرة ثالثة. بمعنى آخر، إذا لم تكن حقوقنا الوطنية نصب أعيننا، فإن الآتي القريب لن ينتقص منها شيئاً، إنما سيفرض علينا إعادة حساباتنا السياسية، وذلك لإيجاد أنسب الطرق لتحقيقها في إطار ما يتوافق مع الظروف والأزمنة، الوضع الذي يعني، أو يفرض، ضرورة ترتيب أوراقنا السياسية وفق هذه الظروف. وهنا، من المهم جداً التفكير في ما يمكن عمله. وباعتقادي أن من المهم أولاً، بل من الضروري، التمسك ولو شكلياً فقط به، ومن دون أوهام بإمكان تحقيق ذلك، موقف "فتح" الذي يطالب بتنفيذ القرارات والاتفاقات كافة المتعلقة بإقامة الدولة الفلسطينية، والتمسك أيضا بالسلطة الفلسطينية التي أنشئت لتعبر عن هذا المطلب على أرض الواقع، وذلك إلى جانب فصل السلطة عن المنظمة، والعمل على إعادة ترتيب أوضاعهما الداخلية، وعلى رأس ذلك القضاء على كل الآفات التي التصقت تاريخيا بهما (الفساد، الأبوية، الإقصاء والتفرد، الخ). كذلك فإن العمل على الحفاظ على وجودنا أينما كنا، بالشكل الأفضل ضمن المتاح، وعلى تصعيد ملاحقاتنا الديبلوماسية والحقوقية على المستوى الدولي في هذا السياق كضرورة لا يمكن التساهل فيها. ولكن ماذا عن العمل على الأرض؟ ما المطلوب داخل إسرائيل أو في غزة والضفة والقدس وكذلك في بلدان اللجوء والشتات؟ مع التأكيد أن لكل جزء من شعبنا خصوصيته، بحسب تواجده، لكن فلنبدأ بما يمكن أن يجمع بينها على أفضل وجه، وتالياً بما يجب إيجاد سبل التعاون فيه، وهو تعزيز الثقافة والهوية والرواية الفلسطينية، وتجنيد الدعم الشعبي والسياسي الدولي للحقوق الفلسطينية (سواء أكانت الإنسانية والمدنية أم السياسية). وهذا الأمر يعني إيلاء الاهتمام المكثف والمدعوم رسمياً لأنشطة الثقافة والإعلام، أي للكتاب والصحافيين والفنانين ومنتجي الأفلام وغيرهم، الذين يمكنهم، وفي لغات مختلفة أن يقوموا بنقل الرواية على أكمل وجه إلى الأجيال المختلفة، وأن يعززوا الانتماء إلى لأرض والوطن. ومن البديهي أن ذلك ليس أمراً احتفالياً أو هامشياً للذي قد نعتبره "مقاومة"، بل هو في صميم المقاومة، ضمن السياسة الجديدة لتعزيز الانتماء وتجنيد الدعم الدولي. لكن ذلك يفرض على القطاعات كافة تنسيق مواقفها وأنشطتها في ظل مؤسسة واحدة جامعة، بحيث تتناسب مطالبها المختلفة تحت عناوين وشعارات عامة ولكن محددة، لا يمكن الاختلاف حولها. ولا يجب للأنشطة المختلفة أن تنتقص منها أو أن تحد من أثرها، هي أساسيات الرواية الفلسطينية، وذلك في ظل تغييب تحقيقها كافة. في هذا الإطار، فإن ما أقترحه هنا تحديداً، هو التركيز على إبراز ثلاثة مفاهيم أو شعارات أساسية، هي: البقاء والعودة والمساواة، والتي تقوم على حقائق ثابتة كجزء من الرواية الفلسطينية، وهي اقتلاع الشعب من أرضه وتهديده في بقائه عليها، ومنعه من تحقيق حقوقه، المدنية منها والسياسية. ويعني "البقاء"، حقي في أن أبقى على أرضي إن كنت فيها، أما "العودة"، فتعني أن من حقي العودة إليها إن كنت أقصيت منها، في حين تعني "المساواة" أن من حقي أن أتساوى مع من عليها، سواء أكانت تلك الحقوق سياسية أم مدنية، في النظام ذاته أو إلى جانبه. تلك المطالب أو الشعارات، يمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً تمثله "منظمة التحرير" بعد تجديد بنيتها، من دون الحاجة إلى تغليب هذه الآيديولوجية أو تلك عليها، والتي تحملها القوى المختلفة. فالقصد هنا إذاً، أن نخاطب الحاجة إلى تعزيز الانتماء وتكريس الهوية وتجنيد الدعم، والمطلوب هو الالتفاف وراء "منظمة التحرير"، بعد تجديدها وتفعيلها، التعاون معا أينما كنا من أجل تحقيق ذلك. ويبقى الهامش مفتوحاً هنا، لتمسك المنظمة بالتسوية وفق قرارات الأمم المتحدة، ليس بالضرورة كهدف يمكن تحقيقه، وإن كان يجب الترحيب به إن ساعدت الظروف على إخراجه إلى حيز الوجود، ولكن كموقف يخاطب المجتمع الدولي ويدل على تمسكنا بما أبدينا الاستعداد للتفاوض بشأنه بدءاً. يمكننا في ظل الموقف الموحد المبين أعلاه، أن نتعامل مع ظروفنا المختلفة في أماكن تواجدنا، وفق منظورنا لما يتطلبه تثبيت وتطوير مواقعنا. بمعنى آخر، يمكننا أن نترك هامشاً للقيادة في غزة، بأن تعمل من أجل تحسين ظروف معيشة سكانها، من دون أن نعتبر هذا خرقاً للإجماع الوطني أو استسلاماً لموازين القوى، وإن كان من الأفضل والحالة هذه، أن تكون قيادة غزة منضوية في "منظمة التحرير" وأن تنسق مواقفها معها. كما يمكننا أن نترك هامشاً للسلطة في الضفة، يتيح لها أن تتصرف مع القوة المحتلة وفق ما تراه مناسباً، لتثبيت مواقع السكان فيها وتطويرها، من دون أن نعتبر ما تقوم به خرقاً للإجماع أو استسلاماً لتلك القوة. والهدف في الحالتين، تعزيز البقاء أو لنقل الصمود. لا يعني ذلك أن هذا الصمود هو أسمى ما نعمل لأجله، أو نعتبره كافياً، ولكنه بمثابة الشرط "الدفاعي" الضروري لما قد نقوم به إلى جانب ذلك على صعيد المقاومة "الإيجابية"، كيفما اتفق شكلها. وفي إسرائيل، يكون العمل من أجل الدفاع عن حقوق المواطنة والمساواة، كيفما ترى قيادة الداخل ذلك، هو المطلوب من أجل تحقيق المطلب ذاته والسير في الاتجاه نفسه، وإن كان من الأفضل والحالة هذه، أن تنضوي هذه القيادة أيضا في "منظمة التحرير"، أو أن يتم تشكيل "هيئة حقوق" كما اقترح أحد المحامين تكون أشمل في تمثيلها من الأحزاب العربية وتنضوي هذه بدل تلك في المنظمة. بيت القصيد: المطلوب هو أن نتفاهم معاً على أبجديات الحركة السياسية المستقبلية، وفق ورقتي "الرؤية" و"المنظمة" اللتين وضعهما "ملتقى فلسطين"، كأفكار عامة وجامعة، تحدد مسارنا السياسي في المستقبل، ووفق تصوراتنا لما يمكن عمله ما بعد الإعلان عن "صفعة القرن" أو أي "صفعة" أخرى. ونحن إن أوضحنا لأنفسنا ولعموم شعبنا هذه الأفكار والتطلعات، قد نتمكن من انتشال أنفسنا من حالة التيه والإحباط، وإعدادها للمرحلة المقبلة، التي ستتطلب وعياً جماعياً وحنكة وصبراً طويلاً. ولا ندري ولا نستطيع أن نتنبأ بوسائل مقاومتنا وقدراتها "الهجومية" مستقبلاً، سلمية كانت أم غير ذلك. ولكني أعتقد أننا جميعا نرى ما لا تستطيع العين أن تخفيه، وهو السقوط الحتمي للنظام الفاشي السائد، واستبداله بنظام إنساني يعيد للفلسطينيين حقوقهم ويفتح أمامهم صفحة جديدة للعيش بحرية وكرامة. في الأثناء، ليس من مجدياً أن نتوقع أن تتبنى كياناتنا السياسية هذه الأفكار في المستقبل القريب، سواء اجتمعت أم لم تجتمع، فكل منها معني بالحفاظ على كينونته وسلطته أولاً، وبالاستمرار في نهجه وفكره، وهذا ما سيقرر مواقفها ونقاشاتها. لكن بث هذه الأفكار، أو مثيلاتها، والتداول فيها بين صفوف الشعب والمثقفين وأولي الرأي في المواقع المختلفة، والخروج باقتراحات عملية وفقها، قد يساعد من جهة في بث روح الأمل العملي، ومن جهة ثانية في التقرب منها والالتفاف وراءها من قبل تلك الفصائل والقوى. * كاتب وسياسي فلسطيني رئيس "جامعة القدس" أستاذ زائر في جامعات أوروبية وأميركية.
مشاركة :