تفتخر بريطانيا بأنها دولة متعددة الأعراق مع علمانيتها، فتسمح بالتالي لمعتنقي مختلف الديانات بحرية ممارسة شعائرهم وارتداء مختلف أزيائهم في الشارع وفي أماكن العمل، في حين تمارس فرنسا أقسى أنواع الاضطهاد والضغط المعنوي والمادي لمحاصرة أي مظهر غير علماني لأنه حسب تعبيرهم لا يتفق مع نمط الحياة العلمانية الفرنسية، وآخر ما تفتقت عنه العبقرية الفرنسية هو قانون صوّت عليه مجلس الشيوخ بأغلبية 185 ضد 100 قبل أيام يمنع الأمهات المحجبات من مرافقة أبنائهن في الرحلات المدرسية، وطبعاً فإن حجتهم معروفة وهي الحفاظ على بيئة الحياة العلمانية الفرنسية، وهذه الحجة هي عقيدة الأغلبية المسيطرة هناك. وفور قراءتي لهذا الخبر قفزت إلى ذهني مناظرة أرسلها لي صديق الأسبوع الماضي شارك فيها هو مع إحدى السيدات الكويتيات، حيث طالبت هي بأن يبقى الدين في الحدود الشخصية، وعدم إدخال الرأي الشرعي في إدارة الدولة، ورفضت أن يدخل أي شخص مجلس الأمة (ويحط) قوانين تؤثر في الحريات مثل منع الكتب، وطالبت أن يبقى دور رجال الدين في الخطب والنصائح لا في فرض القوانين في مجلس الأمة، ورفضت أن تشرع أي مجموعة من الناس قوانين تؤثر في حريتها. وبصراحة لا أدري كيف فات على الدكتورة ما أقدمت عليه كثير من الدول العلمانية مثل فرنسا من منع ارتداء بعض الملابس الشخصية في سبيل الحفاظ على علمانيتها، أليست هذه صورة لتشريع قامت به مجموعة من الناس حسب تعبير الدكتورة الكويتية ضد حرية الآخرين؟ وامتد منع فرنسا وغيرها ليشمل حتى تجريم نشر الكتب التي تناقش مدى صحة مبالغات الهولوكوست وكذلك أزياء النساء في الشارع وعلى البلاج، وازداد الاضطهاد فيها ليصل إلى منع حرية تعبير أي إنسان عن رأيه بشأن حقيقة إبادة الأتراك للأرمن، وأخيراً فرضت مجموعة من المشرعين الفرنسيين (185 صوتاً) رأيها على ملايين الأمهات الفرنسيات المسلمات وتم منعهن من مرافقة أبنائهن. وكل هذه الممنوعات وغيرها تمت بالحجة أو العقيدة نفسها وهي الحفاظ على علمانية الحياة الفرنسية والمجتمع العلماني. لذلك كان على صديقي أن يبين أننا أحق من فرنسا في الحفاظ على قيمنا وثوابتنا في مجتمعنا العربي المسلم، وأن يشرح حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي مثّل المجتمع بالسفينة التي أراد بعض راكبيها ممارسة حريتهم بخرقها لشرب الماء، فكان هذا الخرق سببا في غرقها. كما كان على صديقي أن يرد على الدكتورة ببيان أن من أعظم واجبات الدولة الإسلامية التي ينص دستورها على أن دينها الإسلام هو الحفاظ على المظاهر والشعائر الإسلامية الأصيلة، ونقلها للنشء في التعليم والإعلام، خاصة في الكويت التي نص دستورها على تحميل المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك. ومثل البرلمان الفرنسي الذي أصدر تشريعات علمانية ملزمة بشأن ملابس النساء ومقيدة لحرية الرأي، فإن على البرلمان في الدولة الإسلامية أن يصدر التشريعات الإسلامية التي تحافظ على البيئة الحياتية الإسلامية، وتحارب المنكرات والقيم الدخيلة، أما الحرية الشخصية فتمارس إما في البيوت أو فيما يسمح به القانون من ممارسات مقننة وفق ما بينه الدستور ونصت عليه أحكام المحكمة الدستورية، فلا يوجد حرية مطلقة في أي بلاد في العالم. لذلك فالعجب كل العجب حتى في محاولة التفوق على فرنسا بموافقة اللجنة التشريعية في مجلس الأمة على اقتراح قانون إلغاء الرقابة المسبقة على الكتب، ومطالبة بعض النواب بإلغاء قانون الجرائم الإلكترونية رغم ما قد يحتويه بعضها من مخالفات شرعية وقانونية وأخلاقية خطيرة من شأنها أن تذهب بما تبقى من بيئتنا الإسلامية المحافظة. * أخيراً أتقدم بكلمة شكر كبيرة لكل المتابعة والتأييد الذي تفضل به كثير من إخواني القراء بشأن مقالتي السابقة "فرحة المخلفين عن الصحوة باعتذار عايض"، وأخص بالثناء الدكتور نايف العجمي والأخ مشاري حمود العميري والأخ فيصل المطر على ما تفضلوا به من كلمات قيمة ومنصفة لإيجابيات الصحوة المباركة على الشباب، وإرشادهم للدين الحنيف في ضوء الكتاب والسنّة ومحاربة البدع والمنكرات والتطرف والإرهاب، والحمد لله رب العالمين.
مشاركة :