البروفيسور حسن أحمديان – بعد خروجها من الاتفاق النووي، أعادت واشنطن فرض عقوباتها الأحادية علی ايران، وقامت بخطوات تصعيدية عدة، بعد ذلك، کان آخرها تصنيف الحرس الثوري (أهم مؤسسة عسكرية في ايران) منظمة إرهابية، وإلغاء الإعفاءات الصادرة لتمكين زبائن طهران من شراء النفط والتأقلم تدريجياً مع العقوبات الأميرکية. وأمام هذا التصعيد والخطاب المعادي، أبقت طهران علی التزاماتها في الاتفاق، آملة أن تُسعفها باقي الأطراف الموقعة على الاتفاق في مواجهة مضاعفات العقوبات «غير المسبوقة علی مدی التاريخ»، وفق وزير الخارجية الأميرکي مايك بومبيو. والواضح أن تلك السياسة لم تؤت أکلها، بسبب التخوّف الأوروبي من سخط ساکن البيت الأبيض، ما أدی إلی إعلان الرئيس الإيراني خطوات متدرجة لانسحاب طهران من الاتفاق النووي. ورغم تصاعد الأزمة في شكل متسارع، تستمر واشنطن وطهران باستبعاد الحرب. وعلی عكس ذلك الاستبعاد، تُشير خطوات کل من الجانبين وخطابهما إلی احتمالات الصدام المقبلة، فقد أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات لينكولن إلی المنطقة. وبعدها بفترة، وافق الرئيس علی تعزيز القوات الأميرکية بإرسال 1500 جندي إلی الشرق الأوسط. وردّت طهران علی کل خطوة تقوم بها الولايات المتحدة بإظهار جزء من قوتها عبر مناورة عسکرية هنا، واختبار صاروخ هناك. کما تتصاعد في طهران الخطابات المعادية لواشنطن، التي تحذّرها من أخطار الحسابات الخاطئة. لكن لا تشترك القراءات الإيرانية حول التصعيد الأميرکي، والهدف منه، ولذلك، فهي لا تجتمع تحت سقف خطاب واحد. ثلاث قراءات ثمة نقاش في ايران يدور حول أهداف إدارة ترامب من تصعيدها غير المسبوق، فهناك من يقول برؤية ترامب التجارية وبحثه عن اتفاق مع طهران، بعد وضعها تحت المجهر والضغط عليها. ويُشير هؤلاء إلی أن ترامب طلب من سويسرا تمرير رقم هاتفه إلی طهران، للاتصال به، والجلوس إلى طاولة المفاوضات معه. ويری آخرون أن الهدف هو تغيير سلوك النظام الإيراني في المنطقة. أي أن ترامب – کما أعلن مراراً – يُريد لإيران أن تكون «دولة عادية». ولا تختلف القراءة الثالثة کثيراً عن الثانية، إذ ترکّز علی تغيير النظام کهدف رئيس لإدارة ترامب، وتوضح أن تغيير السلوك المطروح هو بالأساس تغيير للنظام، إذ يُراد من إيران أن تتصرف کألمانيا وکوريا الجنوبية، مثلاً، وهو تغيير ناعم للنظام. ورغم الاختلاف في القراءات، تبقی طريقة الرد أقل إثارة للجدل. فتقليدياً، تبتعد طهران عن التفاوض تحت التهديد، وتفضّل تحسين شروط التفاوض – إن کانت هناك نية للتفاوض – قبل البدء بها. أما حالياً، ولسببَين يتكرارن في النقاشات الدائرة في طهران، ترفض ايران مفاوضة إدارة ترامب. السبب الأول يعود لتراجعه عن الالتزام بالاتفاق النووي الذي وقّعه الجانبان، وأصبح جزءاً من القانون الدولي، بقرار مجلس الأمن 2231. ومن لا عهد له لا ثقة به، وفق تلك الرؤية. أما السبب الثاني، فيعود إلى تخوّف من أن يفرض أي تراجع أمام واشنطن تراجعات أخری علی ايران في المستقبل، فالاتفاق النووي – هو أکبر تراجع ايراني أمام واشنطن بعد ثورتها عام 1979 – أدی إلى مضاعفة الضغط الأميرکي، لانتزاع تنازلات أخری من طهران. وأهم المطروح علی لائحة الطلب الأميرکي اليوم هو نفوذ ايران الإقليمي وبرنامجها للصواريخ البالستية، وهي أدوات قوة ايران، لا يتفاوض عليها إيراني عاقل، وفق تعبير المرشد الأعلی. الاستراتيجية الإيرانية ومع رفض التفاوض، تتقلّص خيارات طهران، ولا يبقی سوی الصمود أمام واشنطن، والاستعداد لأسوأ الاحتمالات. ويظهر شيء من الإجماع لدی النخب الحاکمة في ذلك الاتجاه، فيقول مرشد إيران الأعلی – مؤيداً الرسميين الأميرکيين – إن العقوبات غير مسبوقة بالفعل، مضيفاً أن الهزيمة التي ستلحق بواشنطن ستكون غير مسبوقة أيضا. وفي لقاء رمضاني جمعه بطلاب الجامعات، وضع المرشد صورة أحد قادة بحرية الحرس الثوري، الذي سقط في معرکة مع القوات الأميرکية في الثمانينيات، في إشارة إلى نية طهران المقاومة. أما حكومة روحاني، الموصوفة بالاعتدال، فقد دخلت سباق إبراز القوة بخطاب يتحدى واشنطن، ويعد بالنصر عليها اقتصادياً وعسكرياً، إن فُرضت الحرب. کما توعّد قادة القوات المسلحة من الجيش والحرس الثوري واشنطن بالهزيمة في حال مهاجمتها ايران. فهل إيران علی استعداد لمحاربة أقوی جيش علی مدی التاريخ أم أنه خطاب مناکف لا يعني علی أرض الواقع شيئا؟. أياً کان، تهدف طهران – کما يبدو – إلى الردع، وتبدأ العملية الردعية بخطاب مناکف لمصدر التهديد المتصوّر، فكل الوعيد الصادر عن ساسة ايران وقادتها العسكريين يُظهر خطاباً متماسكاً للردع أمام التصعيد الأميرکي. کما يهدف إلی المحافظة علی التماسك الداخلي. الحرب الإقليمية وإلی جانب الخطاب المناکف، يأخذ الردع الإيراني محورين رئيسَيين: أولاً إظهار القدرات العسكرية في الداخل، وعلی رأسها الصواريخ البالستية. وثانياً إبراز تماسك المحور الإقليمي الذي تقوده ايران وجهوزيته لخوض حرب إقليمية. وتهدف ايران من خلال العملية الردعية تلك إلی زيادة اللايقين في ما يخص قدراتها العسكرية. أي بمقدور واشنطن مهاجمة ايران، ولكنها لن تعلم حجم واتساع الرد الإيراني إلا بعد الهجوم. ويبدوا اللايقين کفيلاً بردع تعوّل طهران علی استمراره. وبالإضافة إلى الردع، ثمة محوران آخران في الاستراتيجية الإيرانية أمام الضغط الأميرکي المتصاعد: أولاً محاولة إبقاء الاقتصاد حيّاً فعّالاً، وإن بأدنی مستوياته. ولتحقيق ذلك ترکّز طهران علی الالتفاف علی العقوبات الأميرکية من جهة، وقدراتها الصناعية والإنتاجية الذاتية من جهة أخری. والواضح أن تراجع صادرات ايران النفطية يُصعّب المهمة. أما المحور الثاني، فهو عبارة عن محاولات لطمأنة الجيران من خلال تكثيف الزيارات الرسمية لدول الجوار، وطرح مبادرات، کدعوة وزير الخارجية ظريف لعقد اتفاقية عدم الاعتداء. ويهدف هذا البُعد من الاستراتيجية إلی نزع فتيل التوتّر بين إيران وجاراتها، لتفويت الفرصة علی واشنطن من رکوب تلك الموجة. في شكل عام، هنالك ثقة کبيرة في ايران بعقلانية، تمنع انجرار واشنطن وراء سيناريو لا تُحمد عقباه، وحذّر قائد فيلق القدس قاسم سليماني، قائلاً إن بمقدور واشنطن بدء الحرب، لكننا نحن من سيقرر نهايتها. وبالفعل، فإن ثقة إيران بقدراتها العسكرية، خاصة في الحروب غير التقليدية وغير المقارنة، عالية جدا. وعلی جانب آخر، لا تريد واشنطن إلا تراجع طهران وقبولها بشروط ترامب، وتثق بقدراتها في ترکيع وإجبار ايران. وفي الروايتين الواثقتين، تبرز أخطار واحتمالات الحسابات الخاطئة، التي قد تؤدي بالطرفين إلی حرب لا يريدها أي منهما. الإستراتيجية الإيرانية: 1 – إظهار القدرات العسكرية.. خصوصاً «البالستية» 2 – إبراز تماسك المحور الإقليمي وجهوزيته لحرب إقليمية 3 – محاولة إبقاء الاقتصاد حيّاً فعّالاً.. وإن بأدنی مستوياته 4 – سعي إلى طمأنة الجيران من خلال الزيارات وطرح المبادرات
مشاركة :