"منع توطين الفلسطينيين في لبنان": كلمة حق يراد بها باطل

  • 5/28/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

يبدو أن الورقة الفلسطينية في لبنان ستدخل في لعبة المزايدات السياسية التي طالما دفع لبنان والفلسطينيون أثمانا غالية بسببها، ذلك أن القضايا العادلة طالما جرى استغلالها واستثمارها لحسابات لا تتصل بسبل الوصول إلى تحقيقها، بل بقدر ما كانت وسيلة من وسائل الصراع والتقاتل من أجل النفوذ والسلطة. يحفل تاريخنا العربي الحديث بما بات يفرض علينا اليوم بعد كل الأحداث والتداعيات التي شهدها، بأن نعيد قراءة الأسباب العميقة لهذا الانتكاس الذي تعيشه الدول العربية، ولهذا التصدع الذي أصاب المجتمعات العربية، وجعلها غارقة في دوامة العنف والفوضى، ونهبا للاستغلال السياسي والاقتصادي، وبالمساحات الديموغرافية والجغرافية المشرعة للغزو باسم قضاياها العادلة، فيما تتحول هذه القضايا في يد سماسرة الغزو إلى أوراق للبيع في أسواق الدول الكبرى ومزايداتها المدمرة والقاتلة. في قضية الوحدة العربية، وفي تجارب المشروع القومي العربي، الكثير من الدروس التي نتعلمها. هذا المشروع الذي قام وحكم في الدول العربية أو هيمن على هذه الدول طيلة نصف قرن وأكثر، إثر نكبة فلسطين في العام 1948، وأخطر ما فيه أنه وهو يرفع قضية تحرير فلسطين كمهمة استراتيجية، كان غارقا في عملية الاستحواذ على السلطة كيفما كان، وساعيا بكل قوة إلى إلغاء التنوع السياسي والاجتماعي، وإلى جعل القمع هوية للسلطة ومضمونها، وسبيلها إلى إثبات وجودها على حساب الحرية وتداول السلطة. وكانت فلسطين بمأساتها الوسيلة الناجعة لتبرير القمع والعنف السياسي والاجتماعي، ذلك أن ما ارتكب من جرائم باسم القضية الفلسطينية في داخل الدول العربية، كان أكبر ممّا يمكن تخيله، والنماذج لا تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وهي حاضرة في صورة كل زعيم قمع شعبه، وفي كل حزب استحوذ على السلطة باسم فلسطين، من العراق إلى سوريا إلى السودان، فالجزائر ومصر وليبيا وغيرها من الأنظمة التي قامت على جرح فلسطين، وحوّلت دولها إلى أجسام مكدسة ومتهالكة محكومة بالعجز والتخلف، بل نهبا لقوى طامعة ودول مستعمرة تنهش منها، بعدما صارت شعوبها أسيرة انقسامات عصبية، كشفت كم أن المشروع القومي كان فاشلا ليس في تحقيق الوحدة العربية فحسب، بل كيف كان وبالا على الدولة الوطنية أيضا، بل هو مشروع الدولة الذي سيبقى المعيار لأي مشروع نهضة فعلية في العالم العربي. لم يكن صعود الإسلام السياسي أفضل حالا، بل ينطبق عليه القول الشهير، “إن التاريخ لا يعيد نفسه ولكن إن عاد، فيعود على شكل مهزلة”. لم يهضم الإسلام السياسي التجربة القومية، ولم يقرأ الأسباب العميقة لارتكاسها في عالمنا العربي، لقد اعتقد أن مقولة “الإسلام هو الحل” كفيلة بأن تنقل الشعوب العربية من حال التخلف والهزيمة إلى التحضر والارتقاء، فقد شهد العالم العربي ومنذ انتصار النموذج الإسلامي في إيران في العام 1979 وفي تجلياته العربية، أسوأ مرحلة انهيار حضاري وسياسي وفكري وثقافي. فالمشروع الإسلامي في تجلياته السياسية، أظهر كم هو خارج عن العصر وفاقد للجاذبية الحضارية، ومشروع خاوٍ إلا من هذا العطش إلى السلطة والتحكم باسم الدين، وربما تفوّق على عتاة المشروع القومي ببراعته في الاستثمار في الجهل، ووصل به الحال إلى أنه فقد ميزة المشروع الإسلامي الذي بشر به على صعيد وحدة المسلمين، ليتحول إلى مشاريع فرق إسلامية تتوسل العصبيات المذهبية والنزعات الفئوية، من أجل السلطة ولا شيء سواها. وانكشفت التيارات الإسلامية بعد عقود قليلة على صعودها، على أنها أحزاب وقوى فاقدة للمشروع الحضاري، وخاوية من أي جاذبية. وبعد أربعة عقود على نموذج الجمهورية الإسلامية الذي بشرت به إيران، يكتشف الإيرانيون قبل غيرهم في هذا العالم، أن هذا النموذج الذي حكم إيران باسم الإسلام، زاد من فقر الشعب الإيراني، وجعل الدولة الإيرانية في مصاف الدول التي يشكل النفور والعداء لها في محيطها أبرز ملمح في هوية نظامها. وللمفارقة وعلى الرغم من النفور العربي والإسلامي من السياسات الأميركية، فإن العقوبات القاسية التي فرضتها الإدارة الأميركية منذ أكثر من عام على إيران، وجرى التشديد عليها منذ مطلع الشهر الجاري، لم تنتج أيا من مظاهر التضامن أو الاحتجاج الشعبي عربيا وإسلاميا وحتى عالميا، على خلاف ما حصل في قضايا أخرى، ولاسيما بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وغداته التي شهدت تحركات احتجاجية في معظم الدول العربية والإسلامية وفي أوروبا وفي غيرها من دول العالم. إيران اليوم فقدت حتى التعاطف أمام العقوبات الأميركية، بل وصل العداء المتغلغل لدى الشعوب العربية إلى موقع لا يكاد ينافسها أحد عليه. مجددا يحاول حزب الله إعادة استثمار هذه القضية، لكنه لا يدرك أنه جاء في الوقت الذي أمعن في استغلالها إلى الحدود التي بات من الصعب الانجرار وراءه باسم فلسطين، أو باسم خطر توطين الفلسطينيين في لبنان، كما قال أمينه العام قبل أيام، بأن على اللبنانيين والفلسطينيين التحرك في سبيل مواجهة خطر التوطين، بسبب ما يسمى تداعيات “صفقة القرن”. ولكن هذه الدعوة التي يحملها حزب الله اليوم، تأتي في أعقاب مسلسل من الارتكابات بحق القضية الفلسطينية نفسها، فنهر الدماء الذي سال في سوريا باسم فلسطين كما روّج حزب الله ولا يزال لتبرير قتاله في سوريا ولتدمير مخيمات اللجوء في سوريا ولتهجير السوريين والفلسطينيين في هذا البلد، كان مسبوقا بخطوات مدمرة طالت السلطة الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني. فحزب الله ومن خلفه إيران استثمرا في الانقسام الفلسطيني منذ تسعينات القرن الماضي، ولم تكن هذه السياسة في مآلاتها اليوم إلا هدايا للكيان الإسرائيلي، وعلى حساب وحدة الشعب الفلسطيني. فالاستثمار في الانقسام لم تكن غايته لا القدس ولا فلسطين، بل كان توظيف الورقة الفلسطينية من أجل تحقيق النفوذ على امتداد المنطقة العربية، بعد المساهمة في إسقاط الدولة فيها، أما إسرائيل فكانت شريكا موضوعيا في المكاسب الإيرانية، بحيث أن الانتصارات الإلهية، كما يسمي حزب الله انتصاره على معارضي نظام بشار الأسد، كانت نتائجها المزيد من التمدد والنفوذ لإسرائيل في المنطقة العربية وفي سوريا التي تطمئنّ لبقاء نظام الأسد واستمراره. قضية التوطين في لبنان هي ورقة في بازار الحسابات الإيرانية بالمنطقة العربية، التي لن تعير بالا للدولة اللبنانية، ولا للحقوق الفلسطينية التي طالما استثمرتها قوى الممانعة في لبنان منذ زمن الوصاية السورية، كمسألة ابتزاز للدولة اللبنانية، أو منصة لتصدير العنف ولمنع قيام الدولة. فمنذ أن توقف العمل العسكري الفلسطيني ضد الاحتلال عبر لبنان، صارت البندقية الفلسطينية أداة لتصفية الحسابات ولتوجيه رسائل أمنية، ووسيلة لتطويع الفلسطينيين وإدراجهم في الحسابات الإيرانية والسورية بمشيئتهم أو رغما عنهم. رفع شعار منع التوطين اليوم يمثل “كلمة حق يراد بها باطل”.

مشاركة :