عن نص أدبي للكاتبة الكويتية علياء الكاظمي يطالعنا المسلسل الكويتي “الديرفة” المعروض حاليا على عدد من القنوات بتركيبة درامية مختلفة ومغايرة عن الأعمال الدرامية الخليجية المستوحاة من التراث، فمنذ اللقطات الأولى للعمل سيدرك المشاهد أنه أمام عمل درامي متميز ويستحق المتابعة، ليس فقط بسبب الحبكة الدرامية أو السلاسة البادية في الحوار، والأداء الجيد والمتوازن للممثلين، بل أيضا بسبب الحفاظ على أكبر قدر من التناغم بين عناصر العمل مجتمعة، من أداء وتصوير وديكور وملابس ومعالجة درامية، وغيرها من العناصر الأخرى التي ساهمت في خروج العمل على هذا النحو اللافت والمتميز بين الأعمال الدرامية المعروضة خلال هذا الشهر. ومسلسل “الديرفة” من إخراج مناف عبدال، ومعالجة درامية للفنانة أسمهان توفيق، ووضع له السيناريو والحوار كل من بدور يوسف ومحمد أنور، وشارك فيه بالتمثيل كل من محمد المنصور وهيفاء عادل وأسمهان توفيق وبثينة الرئيسي وعبدالرحمن العقل ونور الكويتية وحسين المهدي، ومجموعة كبيرة من نجوم ونجمات الخليج. ويبدو واضحا ذلك الجهد المبذول في العمل على النص ومعالجته دراميا، فالحوار جاء سلسا والجمل غير مُقحمة، مع حرص واضح على الاهتمام بأدق التفاصيل. والإطار العام للمسلسل يدور حول أختين غير شقيقتين هما: مريم ونورية (أسمهان توفيق وهيفاء عادل)، حيث ندرك منذ بداية الأحداث أن العلاقة بين الأختين ليست على ما يرام، خاصة من جانب مريم التي تخجل من عمل أختها بالغناء في الأفراح والمناسبات، وهو السبب نفسه الذي يدفعها إلى رفض زواج ابنتها فاطمة (بثينة الرئيسي) من بدر (حسين المهدي) رغم علمها بعلاقة الحب التي تجمع بين الطرفين. وأمام رفض مريم وإظهارها لمشاعر العداء والحقد تجاه أختها تقرر نورية وأسرتها الصغيرة الرحيل عن الحي، لتنتقل بنا الأحداث إلى مسار آخر. وتؤثر الأحداث الدرامية والصادمة في شخصيات المسلسل بالسلب تارة والإيجاب تارة أخرى، إذ تتحول شخصية بثينة الرئيسي إلى العدوانية والانتهازية، بعد أن أرغمتها أمها على الزواج من شاب آخر سرعان ما انفصلت عنه بعد أن رزقت منه بطفل (فيصل).وفي الأثناء تتدهور أحوال فاطمة وأمها بعد وفاة والدها، وتحاول استعادة حبها القديم لبدر، غير أن بدر الذي تزوج بدوره يقرّر طي صفحة الماضي. تشتعل الغيرة في قلب فاطمة التي نراها متقلبة المزاج، وتراوح بين الطيبة والشر، كالأرجوحة أو “الديرفة” باللهجة الكويتية، وشخصية فاطمة ليست الوحيدة التي تطالها التحولات في هذا المسلسل، فهناك شخصيات جديدة تظهر ويكون لها دور فاعل في تطور الأحداث، كشخصية مبارك (عبدالله بهمن) وشخصية صالح التي يؤديها النجم محمد المنصور، والذي يحمل الكثير من الأسرار حول علاقته القديمة بوالدة بدر، كذلك سنرى تطورا مؤثرا في شخصية مفتاح شقيق مريم ونورية. ومن الشخصيات اللافتة هنا والمرسومة جيدا شخصية حنان التي تؤديها الفنانة نور الكويتية، هذه السيدة التي تنجح في رمي شباكها على صالح حتى يتزوج بها في النهاية، وتبدو الشخصية التي تلعبها نور الكويتية ذات أبعاد نفسية مركبة، يفاقمها حدث الوفاة المفاجئة لابنها الصغير، وهو ما يصيبها بالاختلال. تمضي الأحداث على هذا النحو حتى تصل بنا إلى فترة السبعينات من القرن الماضي، هذه الحقبة التي تشهد تحولات اجتماعية كبيرة في الكويت ومنطقة الخليج عامة، ومن ثمة يضطلع الأحفاد هنا بتحريك الأحداث من جديد، فما سببته الكراهية والأحقاد من عداوة على يد الكبار سيعود إلى الواجهة مرة أخرى مع قصص حب جديدة تتم محاربتها، لتتكرّر نفس الأخطاء القديمة، وكأننا نتحرك في دوائر عبثية. وفي المسلسل تأتي الصورة من بين العناصر الهامة واللافتة، وهذه الصورة شكلت ملامحها مجموعة من العناصر المرتبطة بها كزوايا التصوير والديكور واختيار الكادرات، وهو ما اتضح بداية من مقدمة المسلسل، حيث يتم استعراض معالم الحي الذي تدور فيه الأحداث خلال ستينات القرن الماضي. ويمزج المخرج هنا بين اللقطات القريبة والبعيدة، وقد نجح في توظيف البيئة التراثية القديمة عبر بناء قرية تراثية متكاملة، روعي فيها الاهتمام بأدق التفاصيل، من طرز البناء وشكل العمارة السائدة في ذلك الوقت والمعتمدة على الأحواش أو الأفنية الداخلية. مثلت اللقطات الأولى استعراضا بصريا بديعا لجماليات الصورة وتمهيدا مناسبا للدخول إلى قلب الأحداث، حيث بيت نورية، هذه السيدة التي تعمل في الغناء والنقر على الطبل في الأفراح والمناسبات، وتؤدي دورها الفنانة هيفاء عادل. ويحسب للمسلسل أنه يهتم بأدق التفاصيل، وهي من المقومات الأساسية التي يتم إغفالها في الأعمال الدرامية في الكثير من الأحيان، فقد ساهم الديكور والتوظيف الجيد للإكسسوار في تأكيد الجماليات البصرية للعمل، ويمكن أن نعدد هنا الكثير من هذه التفاصيل؛ كصور نجمات السينما العربية المعلقة في حجرة فاطمة (بثينة الرئيسي) وطُرُز الأبواب الخشبية للبيوت، والأدوات المنزلية المصاحبة، والملابس التي روعيت في اختيارها الفترة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث. المسلسل الكويتي أتى بتركيبة درامية مختلفة ومغايرة عن الأعمال الدرامية الخليجية المستوحاة من التراث ويُضاف المسلسل بلا شك إلى رصيد المخرج مناف عبدال الذي قدم لنا خلال السنوات القليلة الماضية مجموعة من الأعمال الدرامية المتميزة، بينها على سبيل المثال، مسلسله الذي عرض العام الماضي “مع حصة قلم” ومسلسل “عزوتي” و”تعبت أراضيك” وغيرها من الأعمال التي حظيت بنسب مشاهدة عالية. لا شك أن المرجعية الأدبية للمسلسل كان لها دور كبير في إثراء العمل ككل، وهو ما يثبت أن الأزمة الحقيقية في صناعة الدراما العربية هي أزمة نصوص لا أزمة كوادر أو كفاءات، ولعل صناع الدراما العربية هم في أمس الحاجة بالفعل إلى البحث عن مثل هذه الأعمال الأدبية التي يصلح التعامل معها دراميا بدلا من اللجوء إلى الاقتباس من أعمال أجنبية لا تمت إلى بيئاتنا بصلة. هذا التوجه نحو الأدب من شأنه أن يصب في صالح الطرفين: العمل الأدبي، والدرامي معا، إذ تمثل المعالجة الدرامية صوغا مختلفا للعمل الأدبي يصل به إلى شريحة أكبر من المتابعين غير القادرين أو المهتمين بالقراءة، وعلى الجانب الآخر يسهم النص الأدبي في الإعلاء من قيمة العمل الدرامي ككل. وفي مسلسل “الديرفة” بدا لافتا ذلك الأداء الجيد للفنانين محمد المنصور وهيفاء عادل وبثينة الرئيسي وحسين المهدي، وكذلك الفنان عبدالرحمن العقل الذي يؤدي دور رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو دور مركب أستطاع العقل أداءه بحرفية، وقد مثل أحد الأدوار اللافتة في هذا العمل.
مشاركة :