لا أدري إن كنت على صواب في اختيار عنوان مقالتي هذه، وهل يجوز لي أن أجمع بين الهدم والثقافة؟ غير أنني أجد في متابعة كل ما يجري في العراق، ما يجعل اختياري هذا أقرب إلى الصواب، فمنذ احتلاله في سنة 2003 بفعل التحالف الأميركي الإيراني، ومن ثم تسليمه بقرار غير مفهوم إلى إيران، وحين أصف هذا القرار بأنه غير مفهوم، فهو كذلك عند أكثر المسيسين والمحللين والمتابعين، بل هو غير مفهوم من قبل سياسيين وإعلاميين وعسكريين أميركيين كثيرين، وهذا ما تؤكده مقولات وتصريحات تصدر عن قيادات سياسية واستخبارية وعسكرية، وما تتخذ من مواقف سياسية أميركية متناقضة ومربكة. هل أبالغ حين أقول، إن كل ما يصدر عن الذين يتحكمون بالعراق وبالعراقيين الآن، من المجموعات المخربة وعياً وضميراً ومعرفة، يدعو إلى الهدم المادي والمعنوي، للشواخص والمعرفة، سواء صدرت دعوات الهدم من عناوين رسمية أم من مواقع أخرى، دينية أو اجتماعية أو ميليشياوية، ومن يتابع دعوات الهدم سيستمع في كل يوم إلى من يدعو إلى حرق كتاب أو مكتبة أو إلى تدمير شاخص تاريخي حضاري، أو إلى محو عنوان أو اسم بلدة أو حي أو شارع أو مدرسة أو جامعة أو مؤسسة علمية، وليس من مسوغ لهذه الدعوات سوى التعصب وغياب المقوم الموضوعي، في المحيط الذي ينتمون إليه ويتحدثون باسمه ويستقوون بجهله. إن ما قادني إلى اختيار وصف ثقافة الهدم، كون التعبير عنها، ليس مجرد حالات فردية، بل هو حالة يومية ومستمرة تصدر عن كثيرين ممن يتحكم بهم التعصب والجهل، بمن فيهم الذين نالوا قدراَ لا بأس به من التعليم، وما يسعفني في هذا الاختيار أن “كبارهم” في الدولة أو الأحزاب الطائفية أو أذرعها الدينية، لا يعترضون عليهم، إن لم أقل، ربما شجعوهم على ما هم فيه من تعصب وجهل. إن دعوة فردية من هذا النوع، يمكن أن يرد عليها بوعي وموضوعية، فيسكتها، ويمحو أي أثر لها، وأذكر أن أحد الأشخاص دعا خلال الحرب العراقية الإيرانية إلى هدم “طاق كسرى” في منطقة النهروان باعتداده أثراً فارسياُ، فكتبت في ما كنت أكتبه في عمود صحفي في صحيفة الثورة تحت عنوان “آخر الكلام” إن من دعا لهذه الدعوة فاته أن يتأمل في الشاخص المذكور، المبني بالطابوق العراقي، ومن بناه هم العمال العراقيون، بل إن تصميمه الهندسي تمثَّلَ الإنجازات المعمارية التي سبقت إنشاءه في بلاد الرافدين، وقد أخذت هذه المعلومات عن مهندسة معمارية عراقية موهوبة ومثقفة، هي المهندسة وجدان نعمان ماهر وبعد هذا الذي كتبته لم يعد ذلك الشخص إلى إثارة الموضوع. إن آخر دعوات الهدم أطلقها أحد رموز ثقافة الهدم، إذ دعا إلى هدم المنارة الملوية في سامراء، لأنها كما يقول، تذكره بخلفاء بني العباس، وهو لا يحبهم!! لأنهم كما يتوهم ويكذب أساؤوا إلى أهل البيت، وهذا الجاهل المتعصب لا يعرف حقيقة العلاقة بين العباسيين وأبناء عمهم الطالبيين، ويعتمد الأكاذيب التي اختلقها الصفويون وأذيالهم خدمة لمشروعهم العنصري، وقبلهم فرس الدولة العباسية من الخلاليين والخراسانيين والبرامكة، وما زالت الآلة الدعوية الصفوية التي تغذي ثقافة الهدم، تعمل بنشاط وتنتج في كل يوم من السخف، ما يخجل حقاً، فتخرب بعض العقول المهيأة لهذا الخراب، وتدمر الحياة الاجتماعية وتبعدها عن فضاء العلم والوعي والمنطق، حتى ليتساءل كثيرون، أحقاً يعيش هؤلاء في هذا القرن؟ وفي احتدام ثقافة الهدم وتعدد مفرداتها في الأوساط التي دفع بها الواقع الناتج عن الاحتلال الأميركي- الإيراني إلى الواجهة وإلى العلن، أتساءل باستمرار وأسأل كل ذي ضمير، هل طالب أحد رموز ثقافة الهدم ببناء مدرسة أو مكتبة عامة أو مسرح أو مركز ثقافي؟! إن الحضارات الإنسانية في كل زمان ومكان، لم تنشأ في محيط منغلق وتوجهات عصابية يقودها متعصبون، ومنها حضارات وادي الرافدين وما جاء بعدها في أزمان السلطات العربية الإسلامية، وبخاصة في بغداد والحواضر الأندلسية وغيرها من بلدان ومدن، فأول ما يحيل إلى تلك الحضارات هو الانفتاح الفكري مقترناً بالانفتاح الاجتماعي، وعلى سبيل المثال لقد شهدت كل من بغداد وقرطبة، مثل هذين الانفتاحين، حيث نتج عنهما واقعان حضاريان، على صعيد الحياة اليومية من جهة وعلى صعيد الفكر من جهة ثانية حيث شاع الحوار وتعددت المدارس والتوجهات وكثرت الاجتهادات، وكان في كل من الحاضرتين المذكورتين نشاط فكري وفلسفي احتضنته مؤسسات شملتها رعاية حكامها وأغناه مفكرون منفتحون محاورون وآخر في مجال الترجمة عن اللغات الأخرى وثقافاتها وكان لهذا النشاط دور مهم جداً في إغناء الفكر وتجديده وانفتاحه. كما شهدت كل منهما حركات تجديدية في الأدب والفن ما كان يمكن أن تكون في ظل الأحادية والتشدد والانغلاق، كما كان البناء المادي، العام والخاص من دلائل تلك الحضارات ومن نتائجها في آن، حيث مشاريع الري والزراعة من سدود وأنهار وسواهما، كذلك مشاريع الطرق بين أنحاء البلاد وفي داخل الحواضر، ولم يكن بناء القصور وأماكن العبادة ومعاهد العلم والمشافي والمتنزهات، بكل مقوماتها الجمالية والعملية، حيث ما زالت تستأثر باهتمام الباحثين والمؤرخين وعموم المتطلعين إلى المعرفة، لولا ثقافة البناء، ومنها المنارة الملوية في سامراء التي طالب مؤخراً أحد رموز ثقافة الهدم بإزالتها وهدمها، وما كان يمكن أن يستمر حضورها المادي والمعنوي لو حكم البلاد أمثاله، فيا لبؤسه ويا لبؤس ما دعا إليه، ويا لبؤس ثقافة الهدم.
مشاركة :