أميركا و"الفوضى الخلّاقة"

  • 6/3/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في مطلع ثمانينات القرن الماضي، أطلق المستشرق البريطاني الأصل الأميركي الجنسية برنارد لويس أفكاراً تحت عنوان: "حدود الدم"، تهدف إلى تقسيم الدول العربية والإسلامية إلى دويلات على أساس ديني ومذهبي وطائفي. بعد سقوط بغداد في نيسان (أبريل) 2003، احتج العراقيون ضد صمت الإدارة الأميركية تجاه عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب في العراق، فعلّق وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد على تلك العمليات قائلا: "إنها إيجابية وخلّاقة وواعدة بعراق جديد". وفي السياق، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا: "إن أميركا على مدى 60 عاما سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديموقراطية، ولم تحقق أيا منهما.. والآن أميركا تتبنى نهجاً مختلفاً... إن هناك من يقول أن الديموقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، فالحقيقة أن العكس هو الصحيح"، بمعنى أن الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديموقراطية الأميركية المنشودة. وحول أحداث عدم الاستقرار في بعض البلدان العربية، صرحت رايس أيضا لصحيفة "واشنطن بوست" بالقول: "إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديموقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلّاقة التي قد تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً". لو تأملنا السياسة الأميركية عموماً تجاه المنطقة أو تجاه دول العالم كافة، لاستنبطنا كثيراً من التناقضات، ليس بسبب جهلهم السياسي، بل العكس، فما يمارسونه هو أشبه بقطعة شطرنج تُحرك فيه البيادق بواسطتهم كما يشاؤون. في عام 2013، سيطر الجيش المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي على مقاليد السلطة في مصر بعد ثورة كبيرة في الشارع. وصحيح أن الرئيس المعزول محمد مرسي وصل بعد انتخابات، إلا أنه لم ينجح في سنته اليتيمة التي قضاها في رئاسته، إلا في تكريس النَفَس الديني المتشدد، في وقت لم ينس فيه الشعب المصري كوابيس إرهاب الثمانينات. موقف الإدارة الأميركية آنذاك، كان منافقا، عندما أبدى استياء ضد تحرك الجيش المصري؛ فمن جهة، الكل يعرف موقف أميركا من التيارات الإسلامية السياسية، التي تعتبرها خطراً على مصالح أميركا، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن جهة ثانية، فإن الأميركيين أنفسهم يقاتلون لاتهام حركة "حماس" بالإرهاب، مع أنها وصلت عبر الانتخابات... فماذا يعني هذا؟ ببساطة، إن "سيدة العالم" لا تريد هزة شوك يصيب دولة الاحتلال الصهيوني، لكنها لا تمانع في أن يعاني الشعب المصري. ويطيب لي هنا أن أتمثل بالشاعر الراحل الكبير أحمد شوقي عندما تم نفيه إلى الأندلس فقال معبراً عن حنينه إلى مصر: "أحرام على بلابله الدوح... حلال للطير من كل جنس؟" الأمر ذاته تكرر في فنزويلا، فالأميركيين كانوا وما زالوا ضد الرئيس الفنزويلي المنتخب نيكولاس مادورو، أي أن الأمر باختصار لا علاقة له بالديموقراطية. مفهوم "الفوضى الخلاقة" الأمريكي، هو الذي أدى إلى ما نراه في دول عربية عدة، ومنها العراق تحديدا، الذي احتله الجيش الأميركي، ثم تركه مرتعاً لإيران بعد أن أعاد إشعال كل جذور الفتنة المطفأة منذ قرون. وقد نرى تحركات أخرى لهذه الفوضى، بهدف تمرير "مشروع القرن"، أو لعل ذلك بدأ، وبعيداً من موقفنا تجاهه، إلا أن الوسيلة التي سيمرر عبرها، قد تكون حرباً نرفضها وبشدة. برأيي، أن المملكة العربية السعودية تتحرك بالاتجاه الصحيح، عندما دعت إلى "القمم" في مكة المكرمة، فهي بذلك تضع الجميع أمام مسؤولياتهم وتجنب المنطقة أخطار حرب لم تسع إليها، متمنية على محبي السلام في إيران أن يتجنبون التصعيد لغة أو سلوكاً. النتيجة، أن "الفوضى الخلاقة" لا تريد في المحصلة إلا مصالح أميركا أولا، والعدو الصهيوني ثانياً، أما ما يحدث بعد ذلك للمنطقة، فهو آخر ما يهم مبتدعي هذه الفوضى، خاصة إذا ضمنت (أميركا) عدم تهديد منابع النفط، ليس حباً بنا، بل خشية على مصالحها.

مشاركة :