الأجواء ملتهبة في الشرق الأوسط

  • 6/6/2019
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

جميل مطر أعرف المبعوث الأممي إلى ليبيا، أعرف غسان سلامة. أعرف عنه، ومنه، ما يجعلني أولي خطابه الأخير في مجلس الأمن ما يستحق من اهتمام لم أولِّ مثله لخطب مبعوثين سبقوه إلى هذه المهمة. ألقى غسان خطابه وهو غاضب أشد الغضب. خشيت أن يخرج عن القراءة، فيعلن بعض ما يكتم ويترك لهم القاعة والمهمة بأسرها، ويخرج من ليبيا ولا يعود. لم يفعل. لم يفعل، لأنه كان يعلم علم اليقين أن تخليه عن المهمة المكلف بها -وحتى مع إعلان غضبه- لن يفيد، ولربما أضاف عقدة جديدة إلى قضية شديدة التعقيد.لعله أراد في كلماته، وقد صيغت في الخطاب منزوعة الانفعال، أن يقول في نيويورك لأعضاء المجلس المسؤول عن أمن العالم: لقد خدعتموني حين وعدتم بدعمي، نواياكم لم تكن صادقة، وإرادة الفعل لم توفروها، سبقتكم إلى موائد المفاوضات أطماعكم في ليبيا، واشتغل بعضكم- مثل غيركم- ببيع السلاح وتنظيم الميليشيات وشراء الذمم وإفساد العقول.سمعت غسان، كان يتكلم عن ليبيا. ورحت أتخيل مجلس الأمن وقد قرر دعوة جميع مبعوثيه في مختلف أقاليم العرب، ليتكلموا ويتكلم مراقبون ومتخصصون آخرون بعد أن يتكلم المبعوث إلى ليبيا، وتساءلت: هل سيكون الاختلاف كبيراً بين ما يقوله كل هؤلاء، إن صدقوا، وبين ما قاله المبعوث الأممي إلى ليبيا؟ اجتمعت قمم ثلاث في المملكة العربية السعودية، وأعتقد أنها حققت الهدف الذي عقدت من أجله. ففي أعقاب استهداف مواقع حساسة في المملكة، وتخريب سفن في المياه الإقليمية قرب ميناء الفجيرة الإماراتي كان لازماً للمصلحة الأمنية لدول الخليج وللمملكة السعودية ودولة الإمارات بصفة خاصة حشد أكبر تأييد ممكن للدول محل التهديد والعدوان، وصياغة أكبر إدانة ممكنة للدولة الإيرانية التي هي مصدر التهديد كما يتصوره ويؤكده أصحاب الدعوة لعقد هذه المؤتمرات. صور هذه المؤتمرات والتغطية الإعلامية لها وعدد من وافق على المشاركة ومستوى الحضور وخطب المسؤولين والبيانات النهائية، كلها أكدت استجابة الدول الصديقة والشقيقة إلى دعوة الالتفاف والتأييد، ولا أكثر. أضفت «لا أكثر» لأعني أن المؤتمرات الثلاثة لم تنعقد إلا من أجل هذا الهدف الكبير في قيمته، ولكن المحدود في حيزه ومضمونه. لم يطلب من أحد تحريك قوات أو غلق حدود أو قطع علاقات أو التضحية بمصلحة كبيرة أو صغيرة من أجل تحقيق هدف محدود كهذا. لا شك عندي في أن أصحاب قرار الدعوة إلى عقد هذه المؤتمرات الثلاثة اختاروا الهدف الهادئ، لأنهم أدركوا ما أدركه المبعوث الأممي إلى ليبيا وغيره من المبعوثين والمراقبين والدبلوماسيين، أدركوا أن الأجواء في الشرق الأوسط، وربما أيضاً في العالم الخارجي، غير مناسبة لانعقاد مؤتمرات بأهداف ثقيلة أو خطرة. لسنا في حاجة لخبراء لإطلاعنا على حقيقة الأجواء في الإقليم. أمامنا الحقيقة واضحة لمن يريد أن يراها، أما أنا، فأراها في أربع صور على الأقل، هي:* أولاً: صورة الأغلبية العظمى من الدول المدعوة من الإقليم أو من خارجه وهي تمر بضائقة أو أخرى. بعضها مثخن بجروح عميقة خلفتها الحرب مع الإرهاب، وبعضها عصرته العولمة وانكسارات النظام الرأسمالي العالمي في آونته الأخيرة. بعضها فاقد الهوية، أو مثقل بحمل هويات متنافسة لا تقوى مؤسسات الحكم فيها والمجتمع المدني على الفصل بينها أو على فرض التسامح على علاقاتها ببعضها البعض. مثل هذه الدول منهكة بعد بحث مستفيض عن حلول عاجلة جداً لمشكلات وأزمات لا تنتظر.* ثانياً: صورة إقليم يلفه الاحتقان. تعبنا من محاولات الفهم والتبرير. أنشب الربيع أظافره الناعمة، فاقتلعت لتعود فيما يبدو أقوى وأصلب عوداً. ليس من المبالغة المفرطة القول: إن مظاهر الاحتجاج تعددت ومظاهر الرفض تعمقت، ومنها الرفض العام في الإقليم للاختراق «الإسرائيلي» المستفيد من تدهور العلاقات في منطقة الخليج.* ثالثاً: صورة أمم شتى تتشارك العيش في هذا الإقليم منذ فجر التاريخ تعيش اليوم حالة الخوف من «تفلتات». واحدة من هذه «التفلتات» تكفي لتشعل النار في كل أنحاء الإقليم. الناس في السودان والجزائر يتوقعون بالقلق البالغ وقوع «تفليتة» بريئة أو شريرة في نواحٍ قريبة من مقر القيادة المسلحة بوسط الخرطوم أو في ميدان بالعاصمة الجزائرية. * رابعاً: صورة يصعب رسمها على الورق أو نقلها إلكترونياً بهدوء ومن دون مبالغة، صورة إقليم يقف على أبوابه من يزعمون امتلاك حسن النية، وكلهم في الحقيقة أشرار. أرى هناك دونالد ترامب وجون بولتون وجاك بنس وجاك بومبيو وستيف بانون، وقد سبقتهم مواقف ورؤى ومعتقدات حذرتني مبكراً من نواياهم. أزداد اقتناعاً حين أرى في بولتون الذي من تاريخه ووثائق حياته وأقواله أستطيع أن أحكم بأن كره هذا الرجل للعرب يزيد أضعافاً مضاعفة عن كره أعتى الكارهين للعرب من اليهود الصهاينة في دائرة صنع القرار الأمريكي، وخاصة بعد أن انضم إليهم فريق جديد من الممولين والمقاولين الصهاينة. يكرهنا جون بولتون، ويتمنى لو أتيحت له الفرصة مرة ثانية، ليعلن حرباً في المنطقة ضد شعب آخر غير الشعب العراقي. كان وأعوانه السبب في معلومة زائفة أودت بالعراق، وأودت معها بأحلام شعوب أخرى إلى الدمار. وهو يحاول الآن فالإقليم جاهز للتدمير. أتمنى أن تكون القمم الثلاث حققت الهدف الذي اجتمعت من أجله، وأتمنى أن تعقد مرات عديدة، يتخصص كل انعقاد لقضية من تلك القضايا التي تصنع هذا الاحتقان في أجواء الشرق الأوسط. لا تأملوا خيراً في الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية، فهي في أحسن الأحوال قادرة على إحباط الجهود الخيرة، وغسان سلامة آخر الشهود على سوء ما فعلت وتفعل.

مشاركة :