لم تكن الأحلام نوعاً من الترهات كما يتصور بعض العامة. إن للأحلام دواعٍ نفسية ترجع إلى عوامل متداخلة منها سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية- دينية، تنعكس في عقل الإنسان وتشكل مصدراً كاشفاً عن ذهنيته وتجاربه اليومية ومعاناته المجتمعية التي ازدادت وطأتها مع الوهن السياسي والتشرذم العربي الذي مكَّن من نجاح الحملة الصليبية الأولى وبداية مواجهة عسكرية وحضارية. ولمَّا كان جهاد الصليبيين والتغلب عليهم من أكثر ما يشغل الناس في ذلك الوقت لذا ذاعت أنباء الرؤى والأحلام المرتبطة بهذه الآمال التي تجيش في النفوس. وانشغلت دراسة "الدعاية في زمن الحروب الصليبية من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلاديين" للكاتبة المصرية النابهة مي محمد حسن وفا، بإبراز أشكال الدعاية التي استخدمها كلا الجانبين الإسلامي والصليبي مع اختلاف وتباين ردود الأفعال الشعبية والرسمية في فترة مليئة بانقسامات حادة بل متعارضة بين الشعوب على كل المستويات الإنسانية والثقافية والحضارية والدينية. هذه الانقسامات التي وصلت أحياناً إلى درجة من درجات الصدام أمام صراع القوى والمصالح، وأخذت أشكالاً وألواناً كثيرة شملت الجوانب الثقافية والحضارية، وكان أشدها خطراً الانقسامات العقائدية وما صاحبها من أحلام ليس لها علاقة بكشف المستقبل بقدر ما يعانيه من صراعات الواقع المأزوم وحالة الموت ما قبل الموت. ولعل الذي أسهم في تهيئتهم لذلك من الناحية النفسية التطورات السياسية والعسكرية التي شهدتها المنطقة العربية بصفة عامة والشام ومصر بصفة بخاصة والمتمثلة في ظهور محاولات جدية لتوحيد الجهود ضد الصليبيين في ظل تخاذل العباسيين وانقسام المجتمع العربي الإسلامي إلى دويلات متنافرة بحكم المغامرين، مع اقتران فعل "الحياة" بفعل "التذكر" بالقياس إلى العقل حال إطلاله من نافذة الأمل إلى المستقبل الذي تقول خرائط التاريخ إن ثمة أملاً هناك؛ كمحاولة مودود بن زنكي عام (507هـ/1113م) ثم نجاح عماد الدين زنكي في قيادة المسلمين ضد الصليبيين من خلال محور الموصل– حلب (523هـ/1128م) والتي كانت مقدمة للوحدة الإسلامية والعربية التي تبلورت– في ما بعد– واكتملت في العهدين الأيوبي والمملوكي من ناحية وإدراك العامة مدى خطورة الاستيطان الصليبي ووجوب التصدي له ودحره وتحركهم الفعلي نحو المقاومة من ناحية أخرى. وكثر في هذه الرؤى أن يرى النائم النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أحد الصالحين، فجاءت تحمل بشارات منها: تمكن المسلمين من التغلب على الصليبيين كالرؤيا التي حكاها رجل للشيخ عمر الملا عام (555هـ/1160م) في الموصل من أنه رأى في المنام أنه في أرض غريبة، وكأنها مملوءة بالخنازير، ورجلاً بيده سيف يقتلها به، والناس ينظرون إليه فسأل أحدهم عنه فقيل إنه يوسف، فكانت معركة حطين (583هـ/1187م). وكان يوسف الملك الناصر صلاح الدين الذي تمكن فيها من هزيمة الصليبيين، وقتل وأسر عدداً كبيراً منهم؛ من بينهم ملك بيت المقدس نفسه جاي دي لوزينيان، ورؤيا أبو شامة عمر بن الخطاب وهو قادم للنصرة، وأمره من ينادي بالرحيل إلى الساحل فاستبشر الناس، وهجم المسلمون في العام نفسه على صور (625هـ/1227م)، وغنموا غنيمة كبيرة، وقتلوا من الصليبيين الكثير. إلى جانب الرؤيا التي رآها رجل مسيحي في دمشق للرسول (صلى الله عليه وسلم) (عام 660هـ/1262م) يأمره فيه أن يسلم، ويذهب لأبي شامة ليعلن إسلامه، ويخبره أن الملك الأشرف صاحب حمص سيملك بلاد سيس ويهلك العدو بها، وسيملك صاحب مصر عكا. وحدث بالفعل أن هاجم السلطان الظاهر بيبرس عكا وتمكن من هدم أجزاء منها وقتل وأسر عدد كبير من الصليبيين. وأغار الملك الأشرف موسى صاحب حمص بمعاونة عسكري حماة وحلب على الأرمن وقتلوا منهم ثلاثين نفراً وأسروا أميراً من أمرائهم. استرداد المسلمين لبعض المدن والحصون كمدن مثل عكا، وصيدا وبيروت ونابلس، وحصون كقلعة طبرية والكرك وصفد وكوكب وذلك من خلال رؤيا أحد الصوفية لقائل يقول له في المنام عن صلاح الدين قبل أن يتولى حكم مصر: ملك الصياصي والنواصي ناصرا/ للدين بعد إياسه أن ينصرا يستفتح البيت بعدما /يطوي الطراز له ويهلك قيصرا وكان ذلك بما تحقق على يد صلاح الدين من فتوحات، ومدينة عسقلان التي بات فيها أبو الحسن الهروي بمشهد الخليل إبراهيم عليه السلام (570هـ/1175م) فرأى في منامه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسط جماعة فسلم عليه، وقبَّل يده، وذكر له أمنيته في أن يستعيد المسلمون عسقلان فبشره بذلك فاستيقظ الهروي، وسجل ذلك على حائط المشهد وأرّخه فشاهد هذا الخط الكثير من التجار والجنود عقب فتح صلاح الدين للمدينة عام (583هـ/1187م). وأيضاً مدينة القدس كرؤيا أحد الصوفية للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالمسجد النبوي يطلب منه الذهاب إلى صلاح الدين سلطان مصر، وإخباره بأن عليه الذهاب إلى بيت المقدس، ويبشره بفتحها وأمارته على صدق رؤياه أن صلاح الدين كان يصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) ألف مرة كل ليلة وقد تم لصلاح الدين ذلك، وكذلك مدينة عكا حيث رأى شرف الدين البوصيري ناظم البردة قبل توجه السلطان الأشرف إلى عكا بمدة هاتفاً ينشد هذه الأبيات: قد أخذ المسلمون عكا / وأشبعوا الكافرين صكا وساق سلطاننا إليهم/ خيلاً تدك الجبال دكا وأقسم الترك منذ سارت/ لا يتركوا للفرنج ملكا فلما انتبه أخبر بها جماعة من أصحابه فكان الأمر كما قال بأن فتح السلطان الأشرف خليل عكا (690هـ/1291م). إخفاق الصليبيين في الاستيلاء على بعض المدن كرؤيا إمام مسجد أبي الدرداء لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة رحيل الصليبيين عن دمياط (565هـ/1169م) يحمله رسالة تبشير لنور الدين بحدوث ذلك وذكر له علامات منها: "بعلامة ما سجدت على تل حارم، وقلت يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً ..." وبالفعل جاءته البشرى برحيل الفرنج عن دمياط. كذلك مثلت الرؤى دعوة لمواصلة الجهاد وعدم الخلود إلى الراحة، والتخلي عن كل ما يصرف الاهتمام عن هذه القضية مهما كان: فقد رأى نور الدين خلال إقامته بالموصل؛ لإقرار ابن أخيه سيف الدين غازي عليها عام (566هـ/1171م) النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول له: "جئت إلى بلادك وطاب لك المقام به" وتركت الجهاد وقتال أعداء الدين؟!" فاستيقظ إثر ذلك مسرعاً بالخروج فلم يعلم به أكثر الناس؛ لسرعة نهوضه إلا فيما بعد. ليس هذا فحسب بل كانت بيان ودلالة على عظم أجر جهاد الصليبيين سواء أكان ذلك: بالاستشهاد في المعركة خلال قتالهم كالفقيه المالكي أبو الحجاج المغربي الفندلاوي الذي رآه أحد العلماء عقب استشهاده أثناء حصار الصليبيين لدمشق خلال الحملة الصليبية الثانية (543هـ/1148م) فقال له "ما فعل الله بك؟ وأين أنت؟ فقال غفر لي، وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين" وكان هذا الفقيه قد أصر على الخروج لقتال الصليبيين طلباً للشهادة على رغم محاولة الأمير معين الدين أنر ثنيه عن ذلك لكبر سنه وشيخوخته. أو القيام بعمل بطولي كبير يخلد ذكرى صاحبه كفتح عماد الدين زنكي لإمارة الرها (539هـ/1144م) فقد رآه أحد الصالحين في المنام عقب وفاته "فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال غفر الله لي بفتح الرها". لأن هذا الفتح أعاد للأذهان صورة القائد العربي المنتصر، واسترجع هيبة العرب والمسلمين، وهدد قوى الفرنج، وكسر شوكتهم، وأمن خطوط مواصلات المسلمين، بأن جعل وادي الفرات كله منطقة إسلامية عربية، كما كان فألاً حسناً حيث مهد لسلسلة من الانتصارات حققها العرب فيما بعد بينما كان نذير شؤم، وكارثة على المستوى الصليبي؛ لأنها أول إمارة صليبية تأسست على يد الأمير بلدوين الأول (490هـ/1097م) في الشام فضلاً عن أهميتها الدينية لارتباطها بتراث المسيحية الباكر. يضاف إلى هذا أن الرؤى كانت بمثابة دعاية سياسية، وعسكرية لبعض الحكام إعلاءً من شأنهم كحماة للدين فضلاً عن بطولاتهم في جهاد الصليبيين كنور الدين محمود الذي رأى بنفسه النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: "أدركني يا نور الدين، فإن شخصاً من الرافضة جاء ليسرق جثتي" وأراه شكله في المنام، فتوجه في صباح اليوم التالي إلى المدينة الشريفة في غير أوان الحج ودبر أمراً جمع عليه الناس، إلى أن حضر الشخص المقصود بذاته فأمر بصلبه، بعد أن تأكد من أنه كان يريد العبث بقبر النبي الكريم. وصلاح الدين الذي روت مرضع من نساء الحلبيين كانت تلتقي بأخت السلطان فأخبرتها أن والدته أتت في نومها فقيل لها عنه أنها تحمل في بطنها سيفاً من سيوف الله. وكذلك رؤيا القاضي الفاضل لصلاح الدين عقب وفاته أن النبي (صلى الله عليه وسلم) زار قبر صلاح الدين (رحمه الله) في جمع من الصحابة "وأنهم لمَّا صاروا عند الشباك سجدوا". وعلى ذلك فقد كانت الرؤى والأحلام تمثل دعماً معنوياً وقوة روحية تدفع الناس إلى التشبث بالحلم فالغد مستراح الكادحين.
مشاركة :