المسرح الإفريقي... الخشبة تبحث عن هوية

  • 6/16/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: علاء الدين محمود ربما تكون القارة الإفريقية من أكثر القارات قبولاً لفكرة المسرح، وذلك لأن القارة بكل سهولها وغاباتها ومرتفعاتها، هي فضاء مسرحي تمارس فيه الطقوس القديمة والعادات والتقاليد وتستدعى بكثافة الأسطورة، ويعبر كل ذلك الفعل بالرقص والحوارات القصيرة في سياق أشبه بالعملية المسرحية، لذلك لا يجد بعض النقاد والمؤرخين مندوحة من عقد مشابهة بين بدايات المسرح الإفريقي والإغريقي. لقد قام المسرح الإغريقي على الطقوس والأسطورة، في ما لا تزال الذهنية الإفريقية تتعايش حتى اليوم مع الغرائبيات والميثولوجيات، ويستخدم المسرح الإفريقي ذات الأدوات المسرحية المستخدمة في الإغريقي القديم مثل الأقنعة التي تشير إلى حيوانات محددة أو ساحر أو قوة خفية متخيلة، كما يستخدم الأشعار والقصائد والموسيقى من خلال الأدوات التقليدية والغناء، وكل ذلك يتم بشكل جماعي وعفوي، وكانت تلك الأشكال المسرحية الإفريقية التقليدية متعددة المواضيع، ولكنها ارتبطت بشكل خاص بالتصورات السحرية، ومن الغريب أن هذه الممارسات في شكلها الجماعي كانت تسمى اللعبة، وهي مسمى مسرحي عالمي أيضاً، فالمجتمع الإفريقي في القرى يمارس اللعبة بكل تفاصيلها الطقسية والغرائبية في شكل دائرة، ويتابع جمهور القرية اللعبة من خلال الوقوف على حدود تلك الدائرة، لكن هذه المهمة لا تقتصر على ممثلين محددين فالجميع يشارك، لكن البعض يبرز دون الآخرين لأنه يحفظ الطقوس ويجيد ترديد الشعائر، ولا تتناول اللعبة الطقوس والشعائر وحسب، بل أيضاً تنفذ في العرض بعض الحكايات الإفريقية القديمة عن الأجداد وبطولاتهم، والحيوانات والصراع مع الطبيعة، وكانت القصة أو المحكية تقدم بتكنيك عالٍ؛ إذ تستخدم الأصوات من قبل الممثلين لمحاكاة الحيوانات، والرعد والبرق والأشياء المجهولة، وهي أصوات تبرز بصورة مخيفة حتى تمنح العرض إثارة ومتعة، ولأن الإنسان الإفريقي كثير التنقل؛ فإن هذه الألعاب قد اشتبكت مع بعضها وشكلت أنواعاً من العروض المسرحية، فاللعبة التي بدأت من نطاق قرية معينة، تلتقي مع لعبة في قرية إفريقية أخرى بفعل التواصل من خلال الحراك، ليكون الناتج من هذا اللقاء لعبة أو عرضاً جديداً يجمع بين الاثنين، ثم يتطور مرة أخرى من خلال لقاء جديد لتعم كل القارة. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الألعاب أوالعروض كانت عفوية في شكلها وطرق تقديمها وتميل كثيراً إلى الارتجال، فالقارة لم تعرف القراءة إلا مؤخراً، وهي قد عرفتها بغير اللغات المحلية الكثيرة المنتشرة، لذلك يغلب على المسرح القديم الطابع الشفاهي، والملاحظة المهمة أن العروض الإفريقية القديمة والتي لا تزال سائدة في كثير من أنحاء القارة رغم عفويتها، إلا أنها شديدة العمق، فالعروض التي تحاكي سيرة الأجداد وشجاعتهم، إنما تحمل هدف أن يستمر الأبناء على ذات السيرة والمنهج من الشجاعة والإقدام والكرم؛ أي أنها عروض ترسخ القيم القديمة حتى يحتفظ الإفريقي بخصوصيته الثقافية والاجتماعية أمام الخطاب الذي جاء مع الاستعمار، ولواحقه حتى زمن العولمة، وقد كان للمسرح الطقسي والحكواتي دوراً كبيراً في مقاومة المستعمر ورفض ثقافته. وعلى الرغم من أن المسرح الإفريقي قد شهد الكثير من التطورات، لكنه لا يزال في عمومه يتناول في موضوعاته القضايا الاجتماعية، مع توظيف الكوميديا بشكل كبير، لكنه يتحرر شيئاً فشيئاً من تلك العفوية، وذلك بتأثير الاستعمار الأوروبي، وقد قاوم المسرح الإفريقي نمط المسرح الأوروبي الذي يريد تحت دعاوى التحديث أن يمسخ الإنسان الإفريقي وهويته وثقافته، لذلك يمكن القول إن المسرح الإفريقي محكية ناقصة، لأنها لم تتجه نحو التطور الطبيعي المنسجم مع بداياته العفوي، لم تنتج هذه العروض والأعمال البسيطة انتقالات من عمق الثقافة الإفريقية، بل حدث نوع من الانقطاع لمصلحة الثقافة الغربية، وذلك يعود إلى أن المستعمر كان يصطحب معه المبشرين المسيحيين والذين كانوا من المتشددين فلم تعجبهم مظاهر الرقص وما شابه ذلك، فقاموا بممارسة نوع من التعالي الثقافي، وقضوا على تلك السمات الثقافية التي ميزت المسرح الإفريقي، وفرضوا أسلوبهم الذي كان في بعض الأحيان يختلف عن المعروف في إفريقيا، مثل الحوار الطويل والجمل الصعبة. لكن بصورة عامة يمكن القول إن المسرح الإفريقي نجح في الإبقاء على سمات تخصه أدخلها على عروض المستعمر المفروضة عليه، ميزته عنه، مثل: الإيقاع والمشاعر والمحاكاة، فالذي لم يكن يعلمه المستعمر أن للمسرح الإفريقي لغته الخاصة التي لا تنحصر فقط في اللغة المنطوقة، بل عبر الدلالات والرموز والإيحاءات، هذه اللغة التي تشكلت من خلال التحاور اليومي مع عناصر الطبيعة، وكان من الممكن جداً لولا الانقطاع أن تجعل كل هذه المكونات والأدوات للمسرح الإفريقي مساره الخاص القوي الذي يجتاح به المشهد الثقافي العالمي، لكن الغربي انتزع المسرح في إفريقيا من حاضنته الأولى وهي العفوية، ولم يجعله يستكمل نموه الخاص حتى مرحلة النضج، وكان من نتاج تلك الهيمنة، أن تشكل مسرحاً في القارة الإفريقية شبيهاً بالمسرح الأوروبي. لقاء مع الأسطورة في المسرح الإفريقي تحضر المتعة والدهشة والغرائبية، حيث تتحول الطقوس والحكايات القديمة إلى لعبة في أجواء طبيعية حميمية تجرى في فضاء أسطوري، تتحرك كل الكتل البشرية في تناغم فريد بإيقاع واحد متناغم يربط بين الرقص والطبيعة في تواصل تعجز عنه اللغة المنطوقة، وتتجلى من خلال هذه العملية فكرة العرض، ويشارك الجمهور بتفاعل كبير ثم يدخل الرجال الكبار في السن من شيوخ القرية إلى المكان المحدد للعرض، ليلقوا مواعظهم بطرق بسيطة وكلمات قليلة يستدعون خلالها ما يسمى ب«روح الأجداد»، التي تحلق في المكان، وهو طقس معتمد في جميع المناسبات والألعاب ذات الطابع المسرحي، لتندمج هذه المواعظ في نسيج البناء الدرامي للحدث المسرحي، بالتالي فإن المسرح الإفريقي تتوفر فيه عنصر الفرجة التفاعلية، وهو الأمر الذي ظل يبحث عنه المسرح الأوروبي كثيراً، وهنالك إرادة كبيرة من قبل المسرحيين الأفارقة لإعادة ذلك الزمن المسرحي الإفريقي الجميل ليكون داخل منظومة العروض الإفريقية الحديثة، حتى يكون للقارة سماتها وخصائصها المسرحية التي تميزها حتى تكتمل محكية المسرح الإفريقي.

مشاركة :