لم تكن العريضة التي رفعتها نساء يابانيات بإيعاز من الممثلة، يومي إيشيكاوا، إلى حكومة بلادهن للاحتجاج على إلزامهن بانتعال الكعب العالي كأحد الشروط التي تفرضها الشركات على الموظفات، البادرة الأولى من نوعها، ففي العام الماضي، سارت الممثلة الأميركية كريستين ستيوارت على السجاد الأحمر حافية القدمين تعبيرا عن استهانتها بسياسات مهرجان كان السينمائي الملزمة للنساء بالحضور بالكعب العالي. وقاد عدد من الرجال أيضا حملات بعدد من الدول مرتدين الكعوب العالية مناصرة للمرأة، وبدأت مثل هذه المبادرات، في عام 2001، بمجموعة صغيرة، تحولت مع الوقت إلى حركة عالمية، تقوم على سير الرجال بأحذية ذات كعب عال لمسافة ميل، وذلك لكي يتمكنوا من فهم أمثل لمعاناة النساء لاسيما في العمل، حيث يفرض في العديد من الوظائف على المرأة ارتداء الكعب العالي مع عدم الجلوس كمضيفات الطيران أو الاستقبال أو العاملات بمحلات بيع الملابس. وتعود أسباب قيام مثل هذه الحملات إلى أنه إلى اليوم لا تزال بعض الأماكن تلزم النساء بانتعال الكعب العالي في إطار قواعد الزي. وكانت أثيرت ضجة كبيرة في عام 2016، بعد أن فصلت إحدى الشركات في المملكة المتحدة، موظفة استقبال من العمل لرفضها انتعال حذاء بكعب عال. وتحولت الواقعة إلى فضيحة، ووقع 150 ألف شخص على عريضة تنادي بإصدار قانون يمنع الشركات من وضع سياسات حول طول الكعب، ما دفع بالبرلمان البريطاني إلى فتح تحقيق حول قواعد الزي المتحيزة ضد المرأة، ومع ذلك لم يتغير القانون حتى الآن. تلذذ الألملكن في عالم تسود فيه هذه المقولة “المرأة القوية هي التي ترتدي آلامها كما ترتدي الكعب العالي لا يهم أنه يؤلم لكنه يعطيها إطلالة جميلة”، تعتبر مثل هذه المواقف شاذة، إذ حتى تحذيرات الخبراء الكثيرة والمستمرة بشأن الأمراض والمشاكل الصحية التي يسببها، لم تمنع الكثيرات من إهدار أموال طائلة على آخر صيحة في عالم الموضة للحصول على هذه الأحذية. وحول هذا التناقض الصارخ في تعامل المرأة مع الأحذية ذات الكعب العالي، يرى الدكتور في علم الاجتماع الطيب الطويلي أن “ارتداء الكعب العالي ينضوي في إطار الموضة التي تختلف حسب المجتمعات وحسب الثقافات والحضارات، وهي تعبّر عن ميل نفسي لشيئين متضادين كما يرى جورج زيمل وهما أولا التفاعل والرغبة في محاكاة وتقليد الأشكال اللباسية السائدة والتي تمنح للفرد إمكانية التماهي مع التيار الراقي والمتأنق الذي يبيّن انضمامه إلى عصره وامتلاكه لأدواته، وثانيا البحث عن التميّز”. وأوضح الطويلي في حديثه لـ”العرب” “ونقصد هنا التميّز عن أولئك الرجعيين أو غير الحضريين أو غير الميسورين الذين لم يقدروا على الانسياق مع الموضة ومقتضياتها، إذ يرى زيمل أن الموضة هي الجمع بين التناقضات بامتياز، بين اتخاذ القرار الفردي في اختيار اللباس، وبين الانضمام إلى القرار الجماعي الذي حدد بشكل لامادي محددات اختيار ذلك اللباس”. ولفت إلى أن “رمزية الكعب العالي وأهدافه تختلفان حسب المجتمعات، ففي عديد الدول كاليابان أو كندا أو غيرهما تفرض الكثير من المؤسسات الكعب العالي على الموظفات، ذلك أنها تعتبره ضروريا ولائقا مهنيا، كما يفرض أحيانا في المناسبات الرسمية والمهرجانات ذات المكانة الرفيعة، وقد قامت مؤخرا العديد من اليابانيات بالاحتجاج بدعوى ما يسببه هذا الحذاء من ألم وذلك باستخدام وسم (#كيو_تو) الشبيه بوسم (#مي_تو) الذي يشير إلى الاعتداء والتحرّش الجنسيين، في إحالة إلى أن إجبار المرأة على ارتداء أي نوع لباسي يمثل شكلا من أشكال التحرش”.وشدد الطويلي في ختام حديثه على أن “النساء يفضلن ارتداء الكعب العالي خاصة القصيرات منهن أحيانا لمحاولة تدارك النقص على مستوى الطول، وأحيانا أخرى لما لهذا الحذاء من مقدرة على إبراز الجسم ومنحه مسحة جمالية أو بعدا جنسانيا أحيانا، كما أنه يحسّس المرأة بالسيطرة والنفوذ باعتبار أنه يمنحها علوية عن مستواها الطولي الحقيقي”. وسبق لمصممة الأزياء الفرنسة كوكو شانيل، تأكيد ذلك بقولها “اجعلي كعبك ورأسك ومعاييرك عالية”، وهو نهج تغلغل في تفاصيل حياة أغلب السيدات اليومية، فارتداء الكعب العالي بالنسبة إليهن لا يرتبط فقط بالتقيّد بالمعايير التي يفرضها عليهن عملهن أو تلبيتهن لبعض المناسبات بقدر ما يشكل لديهن وازعا للظهور والتميز في كل الأوقات.وكان الباحث الفرنسي في علم النفس ميشيل ثيل، أشار إلى أن الأحذية ذات الكعب العالي تسحر النساء وتجعلهن يدمن على شرائها، مؤكدا أن النساء يقتنين عددا من الأحذية أكبر حتى من عدد حقائب اليد. كما عبّرت الأيقونة الأميركية الراحلة مارلين مونرو عن أهمية الحذاء في حياة المرأة بفصاحة بليغة قائلة “لا أدري من ابتكر الكعب العالي لكن جميع النساء مدينات له، فهو يجعل المرأة 25 بالمئة أكثر هيمنة، و50 بالمئة أكثر أمانا ذاتيا، و100 بالمئة أكثر إثارة”. وفي هذا الصدد، أكدت سميحة الصياد، مذيعة بالإذاعة الدولية بالجزائر، على أنها ترفض المشاركة في حملة مثل التي شنتها العاملات في اليابان لتخلص من الكعب العالي في العمل، قائلة “على الرغم من كوني طويلة القامة، وبالإضافة إلى أن ما قد يشكله الكعب العالي في الكثير من أحيان من عبء بسبب ما يسببه من تعب وصعوبة في المشي والتحرك، فإنني حريصة على ارتدائه، لأنه يزيد من أناقة المرأة ويضفي لمسة جمالية على شكل لباسها”. وأضافت “من أجل الأناقة أتحمل قليلا لا بأس بذلك لكن إذا وصل إلى حد الأذيّة وعدم قدرتي على التحمل، أكيد استغني عنه”. وأوضحت “بالطبع أنا أحرص على ارتداء الكعب العالي في المناسبات سواء المرتبطة بعملي أو العائلية، لكن إذا أصبح العمل يتطلب المجيء كل يوم بالكعب، فمن المؤكد أنني أختار الحفاظ على صحتي أولا لن أتحمل أكيد، إلا إذا كان الحذاء من النوع المريح، إذ أن هناك أنواعا مريحة من حسن الحظ ليست كلها متعبة”. تغير في الأذواقلفتت الصياد في حديثها لـ”العرب” إلى أن “صناع الأزياء مبدعون وأكثر ما يهمهم تفردهم في صنع وحياكة أزياء متميزة، لكن هناك من يعمل على إرضاء كل الزبونات من خلال تنويع العروض والأزياء لتناسب الجميع بما في ذلك صنع أحذية مريحة وكاجوال ليوميات كل امرأة، أما بالنسبة للمناسبات فالموضة الدارجة اليوم فساتين سهرة يمكن ارتداؤها مع أحذية رياضية وهذا يناسب الكثير من النساء حتى يكنّ على راحتهن”. وتصديقا لما ذهبت إليه المذيعة الجزائرية، فقد انتشرت على موقع إنستغرام صور نجمات الموضة، مثل جيجي وبيلا حديد وهيلي بيبر، وهن يرتدين الأحذية الرياضية الضخمة مع فساتين السهرة وسراويل الجينز والقمصان، كما أن لاعبة التنس الأميركية سيرينا ويليامز انتعلت حذاء مطاطيا في حفل زفاف الأمير البريطاني هاري وميغان ميركل مع فستان السهرة، وحتى مع فستان زفافها. وهذا ما يكشف أن الأذواق تغيّرت في العقود الأخيرة، وأصبحت الأحذية المطاطية تصلح كأحذية رسمية، ولم تعد ممنوعة في أماكن العمل، وهو ما يؤكد وفق بعض المختصين أيضا أن الأحذية ذات الكعب العالي لم تعد تروق للشباب من أبناء جيل الألفية والجيل الذي يسبقه، لأنها ترتبط بفكرة إلزام النساء بانتعال الكعب العالي في أماكن العمل التي تنطوي على تمييز ضدهن المرأة. كما ظهرت في عروض الأزياء وفي المهرجانات السينمائية في السنوات الأخيرة، أحذية ذات كعب عال للرجال، ما يشي بأن علاقة المجتمع مع الكعب العالي قد تتغير مرة أخرى، حيث ارتبط تاريخ ظهور الأحذية ذات الكعب العالي بالرجال، ففي العصور السابقة كان الرجال أول من ارتدى الكعب العالي.وتشير بعض الأخبار إلى أن النساء كن يتمثلن بالرجال بشكل كبير، عن طريق قص شعورهن بشكل قصير، وتدخين السيجار، وارتداء القبعات، ليكن قريبات إلى الشكل الذكوري، ومن ذلك المنطلق، اعتمدت الكعوب العالية تشبّها بالرجال، حتى أصبحت من الموضة العصرية الآن، وبدأت في التلاشي عند الرجال، وأخذت الأحذية تتطور بأشكال عدة مناسبة لمختلف أذواق النساء. وأشارت إليزابيث سيميلهاك، أمينة متحف حذاء باتا في تورونتو، إلى أن الكعب العالي كان يخص الفرسان الفارسيين في الشرق الأوسط الذين استخدموا الكعب العالي لوظيفة معيّنة، كان يساعد في تثبيت قدم الفارس على الركبان. وقال المصمم الإيطالي، فرانشيسكو روسو، في حوار مع مجلة فوغ إن “المجتمع يتغير، وواجبنا أن ننتج سلعا تساير تطورات العالم”، على هامش إطلاقه في عام 2018، مجموعة من الأحذية ذات الكعب العالي صالحة للجنسين. ومع ذلك تعد الأحذية ذات الكعب العالي في المجتمع الحديث، جزءا من الأزياء النسائية، ويمكن أن تكون جزءا من الإيحاء الجنسي أيضا، فغالبا ما ينظر إلى وضع جوارب أو ارتداء كعب عال على أنها حركات مثيرة. وأثبتت دراسة علمية أشرف عليها أستاذ بقسم السلوك الاجتماعي في جامعة بريتان الفرنسية سنة 2014، أن الرجال يجدون أن الكعب العالي أكثر إثارة، وفقا مجلة “تايم” الأميركية. ولا يشك الكثير من علماء النفس أبدا في أن الحذاء يدفع النساء إلى إهدار أموال طائلة أكثر من الرجال، فهو بالنسبة إليهن “امتداد للذات”، لأنه يرضي غرورهن وقد يجعل الرجال تحت إمرتهن. ولا تتوانى أغلب النساء عن التصريح بولعهن الشديد باقتناء هذه الأحذية حتى أنهن لا يقبلن بفكرة التخلي عنها وإن كانت تسبب لهن آلاما في بعض الأعمال التي تتطلب حضورا دائما بها، حيث تقول يسرا الفاهم، مضيفة استقبال تونسية “أنا ضد فكرة التخلي عن الكعب العالي لأنه استكمال لمظهري والشكل مهم جدا”. وأكدت الفاهم (23 عاما) لـ”العرب” “عملت في أماكن لا تشترط جلوسي في بهو الاستقبال بالكعب العالي، ومع ذلك لو يفرض علي ارتداؤه سأفعل فورا ودون تردد، فهو يعكس حضوري وتألقي في العمل”.وعلى الرغم من إصرار المرأة على أن الكعب العالي جزء لا يتجزأ من أناقتها وحضورها، إلا أن آية خانجي، خبيرة التنمية الذاتية ومديرة الأكاديمية الدولية للتدريب والكوتشينغ بلندن، ترى أن “لبس الحذاء ذا الكعب العالي بشكل مبالغ فيه يكون غالبا بسبب عقدة الجمال والمقاييس المرتبطة بها”. وأضافت خانجي لـ”العرب” “وأحيانا يكون ارتداء هذا الحذاء بسبب قلة الثقة بالنفس وتقدير الذات.. حيث يمكن للبعض منهن أن تقلد بشكل أعمى لتحظى بالقبول من الآخرين لأنها تشبه تلك المعايير المطروحة لا غير”. وأظهر مسح أجرته الجمعية الأميركية الطبية للعناية بالقدم أن حوالي 42 بالمئة من النساء اعترفن بأنهن سوف يرتدين الأحذية التي تعجبهن حتى وإن لم تكن مريحة. ولعل ما يشجع الكثيرات على التمسك بارتداء الكعب العالي أنه على الرغم من أنه يشهد جدلا كبيرا في المجال الطبي، حيث يشدّد العديد من أطباء الأقدام على أن المرضى الذين يشكون من مشاكل شديدة في القدم يكون سببها ارتداء الكعب العالي، إلا أن البعض الآخر من الأطباء ذات الاختصاص يوصي في الآن ذاته المرضى بارتداء كعب متوسط الارتفاع. إذ يبدو أن الارتفاع الطفيف للكعب يحسن زاوية الاتصال بين الأمشاط والمستوى الأفقي، وبذلك يقترب أكثر للزاوية المناسبة وينتج عن ذلك توزيع مناسب للوزن الملائم على القدم.
مشاركة :