“قضايا ترجمة الرواية العالمية إلى العربية.. آليات وطرق التلقي”، عنوان مثير لجلسة حوار ساخن نظمها فضاء “بيت الرواية” في مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، يوم الخميس 13 يونيو 2019، مع الشاعر والكاتب والمترجم التونسي وليد الفرشيشي. وقد دأب هذا الفضاء الثقافي الذي أسسه ويشرف عليه الكاتب كمال الرياحي، على إثارة القضايا الشائكة والراهنة في ما يخص الكتابة الروائية، إنجازا وترجمة ونقدا وتقبلا وتسويقا. وكان من المتوقع والطبيعي أن يستمع جمهور “بيت الرواية” إلى واحد من الأسماء التي أثبتت حضورها اللافت في المشهد الأدبي التونسي في السنوات الأخيرة، وهو الشاعر والقاص والصحافي والمترجم، وليد الفرشيشي، مؤسس ومدير تحرير موقع “الوطن الجديد”، والحائز على جائزة أفضل مترجم بمعرض تونس الدولي للكتاب دورة 2019 عن ترجمته لرواية “يرى من خلال الوجوه” لإريك إمانويل شميت، وجائزة قرطاج العالمية للشعر التي يمنحها ملتقى الفكر التونسي- الإسباني عن ديوانه الشعري “لم أكن حيّا بما يكفي”. كما صدرت له العديد من الترجمات من بينها “اللص” للكاتب توفيق بن بريك. وليد الفرشيشي، كما قال عنه أحد النقاد “واحد ممن جعلوا الكتابة همّا يوميا وشأنا شخصيا” يكتب ـ كما يعيش ـ بغزارة شديدة، مستفيدا من حضوره الإعلامي ونشاطه الدؤوب على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر تفاعله الحي مع شتى الأحداث بلغة شعبية رشيقة، تقترب من عموم الناس، دون أن تخسر وجاهتها الأدبية وقيمتها الفنية. المترجم براغماتي ضمن اللقاء الذي عقده بيت الرواية التونسي تقدم الفرشيشي بورقة، أمام حشد من المهتمين والمتابعين في أحد أروقة مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، حملت عنوان “الترجمة والتوطين: في البحث عن العين الثالثة.. تجربتي مع الترجمة”.يتساءل الفرشيشي، في مداخلته “ما الذي يدفعُ صحافيّا وإعلاميّا إلى تحويل مساره مئة وثمانين درجة ليكرّس وقته للترجمة، بل ويتخذها مهنة؟”. ويستدرك قائلا “هذا السؤال غالبا ما طرح عليّ، ومع ذلك، أحاول دوما أن أبرّر المسألة بحاجتي إلى عين ثالثة، عين تسعى إلى رؤية العالم من خارج منطق الشرط البشري، ومن ثمّة البحث عن تحقيق الذات خارج القوالب والتصنيفات الجاهزة”. الواقع الذي أثبتته تجارب عديدة لإعلاميين وكتّاب، دخلوا حقل الترجمة فلم يخرجوا منه، واستهوتهم هذه الغواية، يفند فكرة مفادها أن الترجمة مهنة تستقل بذاتها عن المنجز الأدبي لصاحبها، بل هي نوع من إعلان “التحيز الذوقي”، والتصريح بما يروق للكاتب من قراءات أراد أن يشرك الآخر فيها. أمّا ما هو أكثر التباسا، ومدعاة إلى التوضيح، فهو أن الترجمة مهنة وفن وتخصص، في غاية الدقة والتعقيد، ولا بد من مراعاة شروطه وأصوله التي ترجمها الكاتب وليد الفرشيشي على شكل “وصايا” ينبغي الالتزام بها في ما يشبه التعليمات الصارمة: على المترجم أن يكون براغماتيا إلى أقصى حدّ وأن يستفيد من الخيارات المتاحة أمامه. كما يرى أنه على المترجم أن يدخل النص الأصلي من بوابة الكاتب، ومن ثمّة عليه أن يلمّ بسيرة مؤلّف العمل وأعماله السابقة والإطلاع على ما ترجم منها. كما عليه أن يعيش حالة الكاتب كما لو أنّه صاحب النص الأصلي وأن يهتم بالتفاصيل الدقيقة ما يمكنه من استيعاب تفاصيل العمل المترجم والتمكن من مفاتيحه الكبرى. وعلاوة على ذلك يجب أن يعي المترجم أن الرواية المترجمة لا يمكن بأي حال أن تكون هي العمل الأصلي، فعملية الترجمة نفسها لا تدعي الكمال أو الإلمام بكلّ الجزئيّات والدلالات والمعاني والصور وغيرها، ومن ثمّة فإن من المهمّ أن يذيّل المترجم ترجمته بالهوامش متى استدعت الحاجة إلى ذلك. حتما من الطبيعي أن لا يتناول المترجم الشغوف كتابا لا يرغب في قراءته هو نفسه، إلاّ إذا كان موظفا يقع تكليفه من إحدى المؤسسات المتخصصة. ووليد الفرشيشي، ليس كذلك، فهو يتعمّد الترجمة، ويذهب إليها طواعية، وعن “سابق إصرار وترصد”، في لغة مزاوجة ومقاربة بين ما يحب كتابته من جهة، وما يروق له قراءته بصوت عال من جهة ثانية.. إنها شكل من أشكال تقدير الكاتب لكاتب آخر أو فلنسمه نوعا من أنواع “الزمالة الأدبية” غير المعلنة. ومثل تلك الحكاية القائلة بأن أفضل الشعراء هو من يحفظ الآلاف من الأبيات ثم يمتلك القدرة على نسيانها، دخل الفرشيشي، عالم الترجمة، متخليا ـ ولو ظرفيا ـ عن عمله الصحافي، دون أن ينساه. ونكتشف في مداخلة الكاتب، حول تجربته في الترجمة، أن هذا العالم ليس اعتباطيا، ولا يخضع للمزاج الشخصي من قبيل “حرية التصرف” بل هو نسق شديد الدقة والتنظيم، واحترام جميع مراحل العملية في إطارها التخصصي مثل أي عملية طهي احترافية. وفي هذا الإطار يقول الفرشيشي، إنّ الانتهاء من ترجمة نص ما، لا يعني اكتمال العمل، فالخروج من مطبخ المؤلف يستدعي ضرورة المرور على غرفة معيشة المترجم العالم بأسرار اللغة المترجم إليها. اليد الأولى والثانية يستشهد الكاتب والمترجم التونسي بفكرة الناشر شوقي العنيزي، مدير دار مسكلياني، الذي بدأ التعامل معه عام 2017 من خلال ترجمة “الشمعدان المفقود”، للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، بأن “يد المترجم الأولى وحدها لا تكفي، ومن ثمّة تتدخل يده الثانية، لتوطين النص وإعطائه هويّة جديدة هي هويّة اللغة التي نقل إليها”. يرى الفرشيشي الذي ترجم ما يزيد عن 10 أعمال أدبية لكتّاب عالميين، من بينهم التونسي توفيق بن بريك في روايته المكتوبة بالفرنسية “اللص”، أن الأمر برمّته “كتابة على الكتابة، حذفا وتشذيبا وتجميلا، وهنا يظهر تمكنّ المترجم من أسرار اللغتين”. ويخلص إلى القول بأن من المهم أن يكون المترجم “كاتبا مبدعا في الأصل، يفسح المجال لخلفيته الثقافية والإبداعية كي تترك بصمته على العمل المترجم”. المترجم له عين ثالثة تسعى إلى رؤية العالم من خارج منطق الشرط البشري، بحثا عن تحقيق الذات خارج القوالب غير أن هذا الأمر لا يكفي في رأي الكاتب، ذلك أن المترجم نفسه يحتاج إلى عينٍ ثالثة، دائما وأبداً، عين يتحوّز عليها المدّقق اللغوي في مرحلة أولى والمحرّر في مرحلة لاحقة لضمان جودة النص النهائي. وبالمحصّلة، فإن الترجمة، كما يراها الكاتب والمترجم وليد الفرشيشي، هي عمل إبداعي جماعي، لكنّه يلتزم بضوابط صارمة، ومنهجيات عمل في منتهى الدقة والتنظيم. ويؤكد الفرشيشي في مداخلته التي حضرها حشد من النقاد والإعلاميين أن الترجمة الجيدة لا تعني التمكنّ من اللغتين فحسب، فهذا لا يكفي، وإنّما من المهم “أن يكون المترجم واعيا بالعوالم التي تكوّن فيها النص الأصلي، بشكل جيّد، وقادرا على التوغل عميقا في مطبخ المؤلّف، وتوطين النص المترجم معتمدا على جماليات اللغة المترجم إليها، والتعاون مع المدقق والمراجع والمحرر الأدبي لوضع اللمسة النهائيّة”.
مشاركة :