القوة بين أمريكا والصين

  • 6/18/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في مقال سابق تحدثنا عن دور القوة في العلاقات الدولية... واليوم يمثل الصراع التجاري - الاقتصادي - التكنولوجي نموذجاً حياً لنمط من أنماط تعامل ودور القوة في نسبيتها وتناسبها وميزان التفاعل بين أطرافها، هذا النمط من القوة هو القدرة على الردع رغم عدم تساوي القوة، فهناك الحد الأدنى من القوة، حيث تكمن ميزة الردع ودرئ الخطر وتجنب المواجهة العسكرية، وبمعنى أدق «الاستمتاع بحصانة القوة التي تردع التعرض لغزو خارجي». القدرة على الردع تذكرني بمحاضرة لبروفيسور ياباني ضليع باللغة العربية ومتحدث جيد بلغة الضاد، بضادها (ض) وحائها (ح) وعينها (ع) ... كانت المحاضرة في نادي الخريجين في البحرين في سنة من سنين تسعينيات القرن الماضي. تحدث المحاضر عن النهضة الصناعية في اليابان والتقدم التكنولوجي، وبالحصيلة الانتشار التجاري على المستوى العالمي. لا شك أن اليابان تتمتع بنصيب كبير من كعكة التجارة العالمية، فالبضائع اليابانية موجودة، بصنوفها المختلفة، في كل مدينة وقرية وبيت على رقعة العالم، فهي تصدر المواد الاستهلاكية والمكونات الاستثمارية التي تدخل في عملية الإنتاج، بمعنى أنها تصدر المصانع وبعضاً من التكنولوجيا. مع هذه القدرة الإنتاجية والتجارية تحولت اليابان إلى قوة عظمى اقتصادياً، فاقتصادها ينافس اقتصاديات الدول الكبرى، أمثال أمريكا وأوروبا والصين. إذاً فهي دولة عظمى بالمنظور والواقع الاقتصادي، وهي منتشرة تجارياً في كل ركن في العالم. البروفيسور الياباني ذكر كل شيء عن مكانة (قوة) اليابان تكنولوجياً وصناعياً وإنتاجياً وتجارياً واقتصادياً، ولكنه تفادى ذكر أن اليابان «دولة عظمى اقتصادياً» دون غطاء عسكري. كان الحضور متحمساً، وساهم في طرح أسئلة ومداخلات متعددة عن العلاقات بين اليابان والدول العربية، أسئلة تقليدية لم تمس الوتر الحساس بالنسبة للكيان الياباني في علاقته  بالمنافسين الكبار ذوي القدرات العسكرية التي بامكانها حماية العظمة الاقتصادية لدولها، وهذا ما تفتقر إليه اليابان. افتقار اليابان إلى قوة عسكرية منافسة للدول المنافسة لها اقتصادياً وتجارياً، والتي تمتلك الأنياب العسكرية، حفزني لطرح هذا السؤال على البروفيسور: «اليابان دولة عظمى اقتصادياً وتجارياً، ولكنها ليست دولة عظمى بالمعنى العسكري، وهذه ظاهرة نادرة في التاريخ، فعظمتها هشة مقارنة بمنافسيها، فماذا لو أن المنافسة بين اليابان وأمريكا، على سبيل المثال، وصلت إلى نقطة حرجة، ودفعت أمريكا الى مغامرة عسكرية ضد اليابان لاسترداد مكانتها التنافسية أمام اليابان، فما هي قدرات اليابان لمواجهة هذا المأزق الكارثي؟». بقى المحاضر صامتاً لبعض الوقت وأنظاره شاخصة الى الارض، ومن ثم رفع رأسه وشبك يداً بيد، وسألني إن كنت أجيد اللغة الإنجليزية، فقلت له نعم، فقال بالإنجليزية إنه يفضل الإجابة على سؤالي بهذه اللغة - لا أدري لماذا ليس بالعربية، رغم إجادته الجيدة للعربية. فقال، بكل بساطة واختصار، إنها فعلاً ستكون كارثة لليابان وإنه ليس بمقدور اليابان ردع هكذا قوة.  وكلنا نعلم أن اليابان مكبلة بمواثيق واتفاقيات، بعد استسلامها لأمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية، تمنعها من بناء ترسانة عسكرية نوعية مقتدرة ورادعة.  بعد عرض هذه الجدلية المحصورة بين أمريكا واليابان في إطار المنافسة التجارية ودور القوة لحماية مصالح المتنافسين، نعرج على ما يدور اليوم بين الصين وأمريكا. الصين دولة لها أنياب عسكرية نوعية، وهي في تنافس تكنولوجي وتجاري مع أمريكا، وهي في مستوى الردع العسكري ضد أية مغامرة عسكرية ضدها. فالصين إذاً، مقارنة باليابان، دولة عظمى متكاملة الأركان في عظمتها، أي أنها تمتلك العظمة العسكرية لحماية عظمتها التجارية ومكانتها التكنولوجية، فهي حرة طليقة الفكر والفعل. صراع يبدو في الأفق بين أمريكا والصين، ولكن بسبب القدرة الصينية النوعية على الردع وما بعد الردع، فإن هذا الصراع تنحصر نوعية أدواته بعيداً عن اعتماد  الإدوات العسكرية، فلا الصين، طبعاً، في وارد التفكير عسكرياً، ولا أمريكا قادرة على التفكير العسكري ضد الصين. الصراع بين العملاقين، رغم كل سخونته سيبقى سلمياً، إلى أن يضطر الطرفان إلى توافقات تحمي مصالح ومكانة الطرفين. النتيجة هي أن قوة الردع، مهما كانت نسبية، لها مساهمة في تجنب المغامرات العسكرية وبالنتيجة تامين السلام بين أطراف النزاع.

مشاركة :