هل يمكن تعريب الديمقراطية؟ (1)

  • 6/20/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

أصبحت الديمقراطية، كنظام حكم وثقافة مجتمعية، أعظم قوة حضارية معاصرة فقد أصبحت غاية شعبية كنظام، وصارت وسيلة مثلى لحل المشاكل في العالم كثقافة. فعُرفت الديمقراطية بأنها اتفاق المختلفين بالسلام. والتشارك في الأمور؛ لكونها آلية تنظيم أمور الحكم ومنهاجا لممارسة السلطة، ونظاما حياتيا لبني البشر لكي يتعلموا أن يعيشوا بسلام. وقد جرت مياه كثيرة تحت جدار هذا المفهوم، وكثيرون حاولوا تسيير هذه المياه بأهداف مختلفة، فمنهم من حاول تطويره ومنهم من حاول تطويعه لأفكاره ومآربه الخاصة والعامة، ومنهم من حاول جعله مفهوما جامدا واتخذه وسيلة لإقصاء أي معارض سياسي بحجة انه لا يؤمن بها بطريقة معينة وأسلوب معين، وحاول البعض الآخر توطين هذا المفهوم محافظًا على جوهره مرنًا في تطبيقه وأقلمته مع الخصوصيات الثقافية للمجتمع. وكانت المنطقة العربية، تاريخيًا، ساحة لكل ما سبق، إلا أننا في هذا المقال سنتطرق فقط إلى نوعين من الديمقراطية كانا محلاً للأخذ والرد في التجربة العربية، الأول كان الديمقراطية التوافقية، والثاني كان التوافق الديمقراطي، وبغض النظر عن مدى نموذجية ذلك التطبيق، إلا أنها كانت أيضا محاولة ضمن محاولات عديدة تمت لتعريب الديمقراطية، محاولين في النهاية الاقتراب من نموذج ديمقراطي عربي يراعي الخصوصية الثقافية العربية من دون افتئات على جوهر الديمقراطية أو ادعاء مشوب برغبة في القفز على توافقات الشعوب وآمالها في حكم نفسها. الديمقراطية التوافقية Consensus democracy ظهر مصطلح الديمقراطية التوافقية كرد فعل على عديد من الأحداث والمصادمات التي وقعت في الدول حديثة الاستقلال ذات التعددية الاجتماعية الواضحة سواء على المستوى القومي أو الجغرافي أو الإثني أو الديني، الأمر الذي وضع علماء الاجتماع السياسي أمام تحد حقيقي ينبغي مواجهته ديمقراطيا حيث ظهرت ثلاثة أنواع من الحلول لمعالجة المشاكل السياسية في هذا النوع من المجتمعات مع الحفاظ على طبيعته الديمقراطية: أولها: إزالة الطابع التعددي للمجتمع أو تقليصه بصورة جوهرية عبر الاستيعاب، وهي طريقة ذات احتمالات ضئيلة في النجاح على المدى القصير خصوصا. وقد ثبت فشل هذا الحل في عديد من دول العالم الثالث التي حاولت عمل استيعاب شكلي ظاهري في البداية أعقبته باستيعاب أمنى كان ثمنه آلاف الضحايا من المدنيين من أبناء الجماعات الأساسية في المجتمع على غرار حروب الهوتو والتوتسي في بورندي أو الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة. ثانيا: الحل التوافقي الذي يقبل بالانقسامات التعددية باعتبارها لبنات البناء الأساسية لنظام ديمقراطي مستقل. وهو حل رغم صعوبته إلا انه أكثر الحلول السلمية وجاهة واستيعابا لواقع التعددية بجميع أشكالها في المجتمع وقد تم تطبيقه في عديد من التجارب خاصة في الدول حديثة الاستقلال مثل إندونيسيا. ثالثًا: تقليص التعدد عبر تقسيم الدولة إلى دولتين منفصلتين متجانستين أو أكثر. وهو حل تفتيتي سهل، يقفز على المشكلة على حساب الأولويات الوطنية ومقتضيات الأمن القومي، ويفتح الطريق أمام جماعات أخرى مختلفة مع الجماعة الأم ليكون لها أيضا تطلعات انفصالية تحت دعوات إثنية تارة ودينية تارة وقومية تارة أخرى. من هنا ظهرت فكرة الديمقراطية التوافقية التي ولدت من رحم الاحتمال الثاني وهو الحل التوافقي الذي يقبل الانقسامات التعددية، حيث اعتبر هذا النموذج الديمقراطي نموذجا يعتمد على تقسيم السلطة بين الجماعات داخل الدولة بحسب نسب معينة (وهناك عدة طرق لهذه النسب) وهذه الجماعات يمكن أن تكون عرقية أو دينية أو قومية أو مذهبية تجمعهم صفتان رئيسيتان هما المواطنة والولاء للدولة (نموذج سويسرا، بلجيكا) ويختص نموذج الديمقراطية التوافقية لنفسه بمجموعة من الخصائص أهمها: ‭{‬ الحكومة الائتلافية تتكون من ممثلي جميع الجماعات داخل الدولة. وهذه الجماعات تكون إما إثنية أو قبلية أو حتى أيديولوجية، أو دينية مذهبية. ‭{‬ أن ممثلي هذه الجماعات المختلفة أحيانا يتمأسسون داخل كيانات مدنية حديثة قد تكون على شكل أحزاب سياسية أو منظمات أهلية مدنية أو تبدو هكذا. ‭{‬ أن النخب الممثلة لهذه الجماعات عادة ما تتمتع بحق النقض داخل مراكز صنع القرار سواء كانت مؤسسة تشريعية أو تنفيذية أو حتى قضائية. ‭{‬ أن ممارسة هذا الحق (حق النقض) يكون مسموحا به في حالة وجود قرار يمس حقوق جماعة معينة ويؤثر على وضعيتها الاجتماعية والسياسية وحقوقها المكتسبة. ومن ثم فالديمقراطية التوافقية تفترض اتفاقا على ترتيبات إجرائية محددة لضمان تمثيل مختلف الهويات الموجودة في المجتمع، بما في ذلك تلك التي يقل عدد المنتمين إليها عن مئات قليلة من السكان، فهي شكل من أشكال الحكم المطبقة في بعض البلدان غير المتجانسة شعبيا. وهي تقضي بإعطاء حق الحكم بالتوافق فيما يتعلق ببعض الأمور الأساسية للجماعات المتمايزة عن بعضها بعضا، والمكونة في مجموعها للدولة، والتمايز يكون سببه عادة اختلافا في الأصول الإثنية أو اللغوية أو الدينية. ويزداد التمايز عندما تكون لدى كل جماعة هواجس معينة تجعلها خائفة دائما من احتمال طمس هويتها من قبل الجماعات الأخرى، أو ذوبانها ضمن الأغلبية السكانية أو الانتقاص من حقوق أفرادها الخاصة أو العامة فيتماسك الأفراد داخل كل جماعة، مكونين بذلك قوة سياسية تتنافس مع غيرها من القوى الأخرى مثيلاتها، وقد يصل بهم الأمر إلى حد التعصب لهويتهم الخاصة أو العامة فيتماسك الأفراد داخل كل جماعة مكونين بذلك قوة سياسية تتنافس مع غيرها من القوى الأخرى مثيلاتها، وقد يصل بهم الأمر إلى حد التعصب لهويتهم الخاصة بهم فيشعر المواطن نتيجتها أن له هويتين، هوية نابعة من انتمائه إلى جماعته وأخرى نابعة من انتمائه السياسي إلى الوطن الذي يحمل جنسيته، وعندما تحتدم العصبيات بين الجماعات يتنازع الفرد هاتين الهويتين، بحيث تطغى في الغالب هويته الخاصة ذات الطبيعة العنصرية الضيقة، على هويته الوطنية. وهنا يتوزع شعب هذه الدولة بين قوى سياسية لكل منها خلفياتها وخصوصياتها التي تجعلها مختلفة أو متمايزة عن غيرها، ويتم اللجوء إلى هذا النوع من التوافق في حال انعدمت الثقة المتبادلة بين هذه القوى الخائفة من بعضها بعضا أو في حال عجزت هذه القوى المتنافسة عن تحديد الغايات والآمال المشتركة التي تكفل عادة جميع المواطنين وصهرهم ضمن بوتقة وحدة وطنية صلبة ومتماسكة. فهي تعتبر نوعا من الكونفيدرالية حيث تؤخذ الآراء بالإجماع، ويكون لكل جماعة فيتو أو حق نقض يمنع صدور أي قرار في الأمور المصيرية من دون موافقتها. ولكن هل هذا النظام كفيل بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي تستطيع من خلاله الدولة الحفاظ على مدنيتها على الأقل أو كينونتها كدولة في حد ذاتها؟ هل استطاع هذا النظام منع تداخلات وتقاطعات إثنية أو دينية أو حتى أيديولوجية عابرة للدولة الموحدة؟ هل يعتبر هذا النظام مدخلاً حقيقيا لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة بمعنى هل هؤلاء المؤيدون لذلك النوع من الحكومات والأنظمة استطاعوا تطبيقيا تحويل هذا النظام إلى نظام ديمقراطي حقيقي بعيدا عن التفتيتات العرقية أو الدينية؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف تكون إجابتها موضوع المقال القادم إن شاء الله. ‭{‬ المستشار السياسي لمعهد البحرين للتنمية السياسية

مشاركة :