انتهينا في المقال السابق من تعريف مفهوم الديمقراطية التوافقية وكيف تشكل نموذجا توافقيا للدول التي عانت تاريخيا من انقسامات عرقية أو دينية حادة، وأنها بنموذجها ذلك تبحث عن توافق وطني من خلال الاعتراف القانوني والسياسي بوجود تلك الاختلافات الاجتماعية بل جعلها جزءا من تركيب الدولة ذاته بحيث يكون الانتماء إلى الطائفة أو القبيلة أو المذهب سابقا -أحيانا- على الانتماء إلى الوطن الأم، وفي هذا المقال نورد ما تم توجيهه من انتقادات إلى هذا النموذج من الديمقراطية، محاولين طرح نموذج آخر يمكن أن يكون آلية سلمية لإحداث تحول ديمقراطي من دون افتئات على فكرة الدولة القومية ذاتها. بداية تعتبر الديمقراطية التوافقية نموذجا أوليا لديمقراطية حقيقية تستهدف في الأساس حكم الأكثرية من دون تعدٍ على حقوق الأقلية إلا أن أهم ما يعيبها هو: أنها ليست على درجة كافية من الديمقراطية: بمعنى أنها لا تتمتع بالقدرة الكافية على تحقيق حكومة مستقرة وفعالة فحكومة الائتلاف الواسع تستلزم حتمًا، إما معارضة صغيرة وضعيفة أو غياب أي معارضة رسمية في المجلس التشريعي، والمعارضة مكون جوهري في الديمقراطيات الراسخة مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، وضعفها أو اختفاؤها يهدد الفكرة الديمقراطية في حد ذاتها. أنها تعكس قدرًا كبيرًا من النخبوية السياسية: حيث إنها تستلزم سيادة النخبة المنظمة كما تستلزم في المقابل دورا امتثاليا خاضعًا من جانب كل الجماعات غير النخبوية، وتقع على عاتق زعماء الأقليات المهمة العسيرة المتمثلة في القيام بالتسويات السياسية مع زعماء بقية الجماعات وتقديم التنازلات لهم والحفاظ على ثقة قواعدهم، لذلك يكون من المفيد أن يمتلكوا سلطة مستقلة كبيرة وموقعا آمنًا في القيادة كما أنها تخضع لاحتمال عجزها عن إحلال الاستقرار السياسي والحفاظ عليه. التردد وعدم الفعالية: فالحكم بواسطة الائتلاف الواسع يعني أن عملية صنع القرارات ستكون بطيئة. وسيصبح هناك فيتو متبادل ينطوي على خطر إضافي يتمثل في تجميد القرارات كليا. النسبية كمعيار للتوظيف في مؤسسات الدولة: حيث ينعكس هذا الائتلاف الحكومي على جميع المصالح الحكومية لتوظيف العاملين الأمر الذي يستلزم أولوية للعضوية في قطاع محدد أو جماعة محددة أعلى من الأولوية التي يوليها للكفاءة الفردية وقد تكون على حساب الفعالية الإدارية. الأمر الذي يجعل الديمقراطية التوافقية نمطا مكلفا في الحكم. تفتيت الدولة المدنية: فالدولة المدنية الحديثة تقوم على انتماء مواطنيها لمجموعة من القيم والمبادئ الأساسية والتي من أهمها المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، والديمقراطية القائمة على الحرية والمساواة والعدالة، بالإضافة إلى الانتماء إلى حدود جغرافية محددة للدولة. ونموذج الديمقراطية التوافقية يجعل من الجماعة ذات العدد الأكبر هي الأكثر هيمنة وتعزز فكرة انتماء الفرد إلى جماعته الأساسية سواء تمثلت في قبيلة أو أصحاب ديانة محددة أو أصحاب أيديولوجية ثابتة، ومن ثم فإنها تسهم بشكل أو بآخر في تفتيت فكرة الانتماء الوطني لصالح ولاءات تحت وطنية، أضف إلى ذلك أن انتماء الفرد إلى طائفته الدينية أو قبيلته يجعل انتماءه أحيانا يتعدى انتماءه الوطني لصالح انتماءات خارجية قد تتقاطع معه دينيا أو مذهبيا أو عرقيا، ما يهدد وحدة الدولة المدنية في حد ذاتها. لذا كان تطلع علماء الاجتماع السياسي إلى نموذج ديمقراطي أكثر مرونة وتوافقًا من النموذج السابق وهو نموذج التوافق الديمقراطي. التوافق الديمقراطي Democratic consensus يقصد به نوع من التراضي العام على مبادئ وأسس وقواعد التطور الديمقراطي ويحدث بين أحزاب وقوى وجماعات واتجاهات سياسية وأيديولوجية، يدور الخلاف بينها حول مواقف وبرامج يختارها أنصارها بإرادتهم، وليس حول هويات أولية يولدون بها. وربما يجوز تشبيه هذا التوافق بالأساس الخرساني الذي يوضع تحت الأرض عند بناء أي مبنى، فحين نشرع في مثل هذا البناء يجوز أن نختلف على كل شيء فيه، إلا مواصفات ومستلزمات الأساس الذي يقام عليه المبنى، فإذا اختلفنا على هذا الأساس يكون ما نفعله مقدمة لانهيار المبنى فور بنائه. ونموذج التوافق الديمقراطي لا يختلف في الجوهر، إذ يجوز أن نختلف على كل شيء فيه فيما عدا المقومات الأساسية للدولة التي ينبغي أن نتوافق عليها، لأنها لا تتغير من انتخابات لأخرى، فلا يمكن أن تؤدي انتخابات مثلاً إلى دولة دينية فيما تقود الانتخابات التالية لها إلى دولة علمانية. فهناك مقومات نتوافق عليها ولا يغيرها حزب أو جماعة مهما كانت قوتها السياسية أو الانتخابية حتى إذا حصلت على أغلبية كبيرة. والتوافق العام بهذا المعنى يتركز في مقومات الدولة، وينصرف أيضًا إلى المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي والاجتماعي والمحددات الرئيسية لتنظيم العلاقة بين أطرافه سواء بين الحكم والمعارضة، أو بين قوى المعارضة بعضها بعضا، وهو ما يعرف عموما بقواعد اللعبة. فلا فرق في الجوهر بين التنافس السياسي والثقافي والفكري والتنافس في أي مجال من مجالات الحياة، ولا يستقيم أي تنافس من دون قواعد ينطلق منها المتنافسون ويعودون إليها كلما اقتضى الأمر، فإذا لم يرتض فريقان، وهما في الملعب، القانون الذي ينظم اللعبة، تنتفي أهم مقومات التنافس وتنهار المسابقة التي يلعبان في إطارها، وكذلك الحال إذا ارتضى أحدهما هذا القانون بينما أراد الثاني تطبيق قانون ينظم لعبة أخرى مختلفة. ولذلك فمن الصعب المضي نحو إطلاق التنافس السياسي من دون قيود في غياب توافق عام أو تراض عام على بعض أهم مقومات الدولة. ولهذا فالتراضي العام يعتبر ذا أهمية محورية في نموذج التوافق الديمقراطي تحديدًا، حيث لا مجال له في النظم الأوتوقراطية الفردية، التي يفرض فيها نظام الحكم ما يرتضيه هو من دون غيره، في الغالب الأعم، فالتراضي بطبيعته عمل من أهم الأعمال الديمقراطية بل يجوز القول انه العمل المؤسس لأي ممارسة تستحق أن توصف بأنها ديمقراطية وذلك لسببين: أولهما: أنه يتحقق عبر حوار لا يمكن أن يستمر ويثمر من دون التزام حقيقي بالديمقراطية من جميع الأطراف. ثانيهما: أن الديمقراطية التي تفتقد التراضي، تصبح صعبة المنال أو قابلة للتعثر السريع أو الانتكاس الفوري، فالديمقراطية لا تمارس في الهواء وإنما على أرض محددة، وإذ لم تكن هذه الأرض ثابتة فهي تميد بمن يقف عليها. فأخطر ما يواجه أي تطور ديمقراطي حقيقي هو أن يظن أطرافه أو بعضهم أن الديمقراطية بمثابة تنافس منفلت من أي قواعد ومعايير، وأن الشعب يختار من يريده بين المتنافسين بمنأى عن إطار ينظم التنافس ويحدد ما هو ثابت لفترة معينة وما هو متغير. ولذلك يحدث التوافق الديمقراطي عادة على مبادئ وقواعد يلتزم الجميع بها لضمان سلامة العملية الديمقراطية واستمرارها وتجنب ما يمكن أن يؤدي إلى تعثرها أو انتكاسها بغض النظر عن نتائج الانتخابات ومن يفوز بها أو يخسر. ولعل النموذج الديمقراطي الهندي هو الأقرب لنموذج التوافق الديمقراطي حيث الدستور الذي يحدد طبيعة الدولة ويعترف بتعدديتها على المستوى العرقي والديني واللغوي والجغرافي من دون افتئات لجماعة على أخرى أو محاولة لفرض نموذج معين بحجة انه يمثل الأغلبية أو الاتجاه السائد في المجتمع، الأمر الذي انعكس على وحدة الدولة الهندية المدنية من دون وجود أي نوع من التنازع العرقي أو الديني أو اللغوي فالكل يؤمن بتنوعه وتعدده ولكن في إطار وحدته الوطنية الأم. ولكن هل الديمقراطية بهذا النموذج تصبح صالحة للعالم العربي وقابلة للتطبيق في إطار البيئة الثقافية والاجتماعية القائمة على التنوع العرقي والديني والمذهبي؟ وهل الخبرة التاريخية العربية كانت إيجابية في خلق نموذج ديمقراطي أكثر تعايشا وقبولا للتعددية بشكل عام والسياسية منها على وجه الخصوص؟ وكيف يمكن الاستفادة من التمايزات العربية تاريخيا ودينيا واجتماعيا في خلق نموذج ديمقراطي عربي يراعي الخصوصية الوطنية العربية من دون تعد أو مساس بجوهر قيمة الديمقراطية ذاتها؟ هذا هو ما سنحاول الإجابة عليه في المقال القادم إن شاء الله. { المستشار السياسي لمعهد البحرين للتنمية السياسية
مشاركة :