تتوالى في الأيام الأخيرة رسائل من دمشق إلى أنقرة تنزع نحو الرغبة في تطبيع العلاقات بينهما ولكن ضمن شروط محددة منها التوقف عن دعم الفصائل الإسلامية والجهادية، وسحب قواتها من الأراضي السورية. وتأتي هذه الدعوات على وقع استمرار التصعيد في شمال غرب البلاد، بين القوات الحكومية والفصائل الجهادية على رأسها هيئة تحرير الشام التي تقودها جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) والمدعومة من تركيا. وتثير الدعوات السورية تساؤلات حول ما إذا كانت مناورة، أم أن هناك رغبة حقيقية في تطبيع العلاقات تدفع باتجاهها روسيا. وسبق وأن كشف مسؤولون أتراك وسوريون عن محادثات خلف الكواليس لكنها محصورة في البعد الأمني. وجدد وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، مساء الأربعاء، التأكيد على ضرورة سحب تركيا قواتها من سوريا والتوقف عن دعم “المجموعات الإرهابية”، لتطبيع العلاقات بين البلدين. وقال المعلم في مقابلة تلفزيونية خلال زيارته للصين إن سوريا لا تسعى لمواجهة عسكرية مع تركيا، لكنه رفض موقف أنقرة من عمليات الجيش السوري في إدلب، مشيرا إلى أن المحافظة سورية وما يقوم به الجيش من عمليات هو ضمن الأراضي السورية. وأضاف وزير الخارجية السوري “لم نعتد على أحد وما نريده تحرير أرضنا الذي هو حق مشروع لنا”. وقال “هناك أمور كثيرة على تركيا القيام بها، من بينها سحب قواتها من الأراضي السورية، وإذا لم تسحب قواتها من سوريا فإنها ستكون قوة احتلال لا فرق بينها وبين إسرائيل”.واستطرد قائلا إن “على تركيا التوقف عن تدريب وتسليح المجموعات الإرهابية، وإذا التزمت تركيا بهذه الأمور فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات معها إن شاء الله”. وأوضح وزير الخارجية السوري “لم أضع شروطا على تركيا، إنما حددت الأسس التي يقوم عليها منطق العلاقة بين بلدين جارين”. وكان المعلم قد صرح قبل ذلك بيوم بأن بلاده لا ترغب في أي مواجهة مسلحة مع تركيا، ردا على تلويح الرئيس رجب طيب أردوغان بالرد على دمشق، في حال واصلت استهدافها لنقاط المراقبة التركية في إدلب. واتهمت أنقرة الأسبوع الماضي الجيش السوري باستهداف إحدى نقاط المراقبة التي تم إنشاؤها في منطقة خفض التصعيد في إدلب بناء على اتفاق مع روسيا جرى في سبتمبر الماضي وبقي مجرد حبر على ورق، وأدى ذلك الاستهداف إلى إصابة ثلاثة عناصر من القوات التركية. وتلك ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها نقاط المراقبة التركية الـ12 خلال الفترة الأخيرة، الأمر الذي أثار المخاوف من اندلاع مواجهة مباشرة بين القوات التركية والسورية. رسائل دمشق الموجهة لتركيا لم تقف عند المعلم بل وجهها أيضا أحد صقور النظام وهو المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري الذي قال خلال جلسة لمجلس الأمن حول الوضع في إدلب الثلاثاء “نحن وهم (تركيا) باقون وموجودون في هذه المنطقة بحكم الجغرافيا والتاريخ”. ويرى مراقبون أن النظام السوري لم يغلق أبدا الباب أمام أي تفاوض أو تطبيع مع تركيا شريطة وقف دعمها للجهاديين، رغم الاتهامات التي دائما ما يوجهها لها، وهو يريد اليوم تحقيق خطوة في هذا الصدد بدفع من روسيا، في محاولة لتجنب تحول إدلب إلى مستنقع لاستنزاف قواته، التي تجد حتى اليوم صعوبة في اختراق دفاعات الفصائل الجهادية التي شكلت غرفة عمليات مشتركة يشرف عليها مستشارون أتراك. وتسببت المعارك خلال 48 ساعة في ريف حماة الشمالي، وتحديدا في محوري الجبين وتل ملح في مقتل 89 من الفصائل المقاتلة بينها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) مقابل 41 من القوات الحكومية والمسلحين الموالين لها، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. وأفاد مدير المرصد رامي عبدالرحمن عن معارك مستمرة بين الطرفين، تترافق مع غارات تشنها طائرات سورية وأخرى روسية. وأعلنت روسيا قبل أيام عن وقف لإطلاق النار، نفته لاحقا تركيا التي منحت الضوء الأخضر للفصائل لشن هجمات معاكسة جعلت الهدنة في مهب الريح. ويقول مراقبون إن عدم اعتراف تركيا بالهدنة نابع من قناعتها بأنها ليست سوى “استراحة محارب” لإعادة ترتيب صفوف القوات السورية، ويلفت المراقبون إلى أن أنقرة على قناعة بأن دمشق وموسكو حسمتا أمرهما لجهة استعادة إدلب وأنه لا مجال للتراجع. ويلفت المراقبون إلى أن تركيا ترفض التسليم بالأمر وستعمد إلى إطالة أمد الحرب بدعم الفصائل عسكريا ولوجستيا واستشاريا، علها تنجح في فرض تنازلات من الطرف المقابل كالسيطرة على تل رفعت في ريف حلب، والاحتفاظ بوجودها المباشر في المناطق التي احتلتها، مع دعمها في خطط إقامة منطقة آمنة شرق الفرات. ويشير هؤلاء إلى أن الحالة الوحيدة التي ستضطر تركيا إلى التراجع هي استشعارها بإمكانية انهيار الفصائل في إدلب، أو حصول توافق روسي أميركي (اجتماع القدس) من شأنه أن يضيق عليها الخناق. ويعقد الأسبوع المقبل اجتماع في مدينة القدس بين أمين مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف، ومساعد رئيس الولايات المتحدة للأمن القومي جون بولتون، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، لبحث التسوية في سوريا. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس تعليقا على إمكانية عقد بلاده صفقة مع الولايات المتحدة في الملف السوري، إن روسيا لا تتاجر بمبادئها وحلفائها. هل تختفي المركبات العسكرية التركية في سوريا وأوضح بوتين خلال الخط المباشر مع المواطنين ردا على سؤال حول احتمال عقد “صفقة كبيرة” بين روسيا والولايات المتحدة بشأن سوريا “ماذا يعني صفقة؟ الحديث لا يدور عن قضية تجارية. لا، إننا لا نتاجر بحلفائنا ومصالحنا ومبادئنا”. وانخرطت تركيا منذ البداية في النزاع السوري الذي اندلع في العام 2011، قبل أن يتخذ في العام 2012 بعدا مسلحا حيث دعمت أنقرة الفصائل المسلحة وخاصة الجهادية والإسلامية منها كجبهة النصرة وأحرار الشام، واحتضان المعارضة السياسية، ولعبت دورا رئيسيا في استقطاب الآلاف من المتطرفين من أنحاء مختلفة من العالم للقتال في سوريا. وتوزع جزء كبير من هؤلاء الجهاديين على الفصائل المتطرفة وفي مقدمتها تنظيما داعش وجبهة النصرة، فيما شكل الباقي كيانات خاصة بهم على غرار الحزب التركستاني (يضم عناصر من الأويغور القادمين من إقليم شينجيانغ الصيني). وحاولت تركيا جاهدة إقناع الإدارة الأميركية السابقة بضرورة التدخل العسكري ضد دمشق أو أقله إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، بيد أن الأخيرة لم تكن متحمسة، وحصرت دعمها للمعارضة في تسليح البعض من فصائل الجيش الحر، والضغط الاقتصادي والدبلوماسي. وشكل ذهاب إدارة أوباما في خيار دعم أكراد سوريا عقب اجتياح تنظيم داعش لأراضيهم نقطة تحول في السياسة التركية التي ذهبت باتجاه التدخل المباشر في سوريا في العام 2016 في إطار عملية أطلقت عليها “درع الفرات” سيطرت قواتها من خلالها على أعزاز وجرابلس والراعي، كما ذهبت في خيار إبرام صفقات مع الجانب الروسي الذي دخل على الخط في العام 2015. ومن أبرز الصفقات التي عقدت كانت سيطرة الجيش السوري على مدينة حلب، والغوطة الشرقية، في مقابل حصول تركيا على ضوء أخضر روسي للتمدد عسكريا في عفرين ذات الغالبية الكردية في العام 2018. ويقول متابعون إن فرص التوصل إلى صفقة جديدة في إدلب تبدو ضعيفة نسبيا، خاصة وأن الاستراتيجية التركية في سوريا قائمة أساسا على دعم الفصائل الجهادية وأساسا على هيئة تحريرالشام التي تتخذ من المحافظة معقلها الرئيسي، وبالتالي فإن تركيا تريد ثمنا يوازي حجم الخسارة.
مشاركة :