صدام الأجيال.. معارك طواحين الهواء

  • 6/24/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

** القاهرة: «الخليج» ارتبطت الثقافة العربية منذ فترة طويلة بفكرة «المجايلة» التي تخص ظهور مجموعة من الأدباء في حقبة زمنية واحدة، بحيث تكون لهم سمات عامة تميز إبداعهم، مثل جيل الستينات، وجيل السبعينات، وجيل التسعينات، وغيرها، ومع توالي الأجيال يرى البعض أن هناك أزمات ومعارك تثار ما بين جيل وآخر، وهذا يجعلنا نتساءل: هل توجد أزمة أجيال بين الكتّاب والروائيين والشعراء العرب؟يرى الناقد د. صلاح السروي- أستاذ الأدب المقارن بكلية الآداب جامعة حلوان- أن «المجايلة» في الأساس فكرة متوهمة ولا تنتمي للواقع الأدبي والثقافي بصلة، وأن وجود أزمة بين الأجيال المختلفة، سواء من يكتبون الرواية، أو الشعر، أو المسرح، أو غيرها من الأنواع الأدبية، هي أزمة متوهمة أيضاً، هي أشبه بمعارك طواحين الهواء، والدليل على ذلك أن شواهد عدة تدل على أن الأجيال السابقة تتبنى وترعى الأجيال اللاحقة، ولا ينفي وجود جيل المجهودات التي قامت بها الأجيال الأخرى، فالحقيقة أن كل جيل يسلم الراية للجيل التالي له، والذي يعتبره امتداداً طبيعياً له.وقد رأينا في مصر- على سبيل المثال- كيف أن ناقداً من جيل الستينات وهو الراحل رجاء النقاش، قدم الكثير من أبناء جيل السبعينات، وأذكر أنه قدم أول ديوان للشاعر حسن طلب في بداية السبعينات، كما قدم أيضاً تجارب حلمي سالم، ونوال مصطفى، وفاروق جويدة، وغيرهم، مثلما قدم من قبل روائع أعمال أدباء جيل الخمسينات والستينات مثل «مدينة بلا قلب» لأحمد عبد المعطي حجازي، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، وأنجز كتاباً كاملاً عن محمود درويش حين كان في مرحلة البدايات، فكان النقاش أول من كتب عنهم وقدمهم للساحة الثقافية العربية.ورغم أن بعض الأجيال، مثل جيل السبعينات، حاولت نفي بعض الرموز الأدبية في الأجيال السابقة عليها، إلا أنه مع مرور السنوات هدأت المسألة بشكل كبير وأصبحت هناك حالة من المراجعات الأدبية، وكلنا نذكر معركة شعراء السبعينات مع الشاعر الراحل أمل دنقل، لكن الآن نجد بعض شعراء هذه المرحلة يكتبون مقالات يوضحون فيها جماليات القصيدة عند «دنقل»، كما أن كثيراً من شعراء هذا الجيل كانوا في السابق يتحدثون عن تأثير تجربتهم في الأجيال اللاحقة، تغير ذلك الآن ولو بشكل نسبي، حيث نجد تأثيراً متبادلاً من الجيل الجديد، خاصة في كتابة بعض شعراء جيل السبعينيات لقصيدة النثر في مصر، فلا أحد باستطاعته أن ينكر ما وصلت إليه القصيدة الجديدة على يد جيل التسعينات، الذين يكتبونها برؤية مختلفة وبأفق جديد ومغاير، ولا يستطيع من يقرأ المشهد أن ينكر أن بعض شعراء السبعينات الآن يكتبون قصائدهم بنفس روح جيل التسعينات. هنا التأثير متبادل، ولا فضل لجيل على آخر، إلا بما قدمه من تجديد في بنية النص الأدبي، أما لغة التعالي بين الأجيال، أو ما يسميه البعض بالصراع، فليست في مصلحة الحركة الثقافية بشكل عام، لأنها تأخذ من المبدع ولا تعطيه، وتجعله ينشغل بأمور أخرى غير الأدب والفن، لأن هذا الصراع يضر بالحركة الثقافية، وأيضا ًبالقيم الإنسانية حيث إن الفن والأدب هما في الأساس يسموان بالنفس البشرية عن الصغائر.وهناك معارك مفيدة بالتأكيد إذا كانت في صلب العمل الإبداعي، بمعنى أن كل جيل يحاول أن يوجد له نظرية خاصة، وفلسفة خاصة في الكتابة يدافع عنها، ويحاول أن يطبقها على النصوص، حينئذ يتخذ الأمر مساراً آخر يؤدي للتجديد. روح العصر يشير الناقد د. عبد الحكم العلامي، إلى أن اختلاف الأجيال مفيد للحركة الأدبية، فكل جيل يضيف إلى الإبداع، حيث يكتب مبدعوه بروح العصر الذي يعيشون فيه، فعلى سبيل المثال الجيل الجديد، أي ما بعد الألفية الجديدة، بالتأكيد يختلف عن جيل التسعينات وجيل الثمانينات، لأن هذا الجيل يعيش في بيئة مختلفة تقوم على استخدام أحدث وسائل الاتصال من الإنترنت، و«فيس بوك» وغيرهما، ما أنتج نصاً أدبياً مختلفاً استفاد من هذه التقنيات الرقمية الجديدة، وهذا بالتالي أثر في الصورة الأدبية، من حيث الشكل ومن حيث المضمون أيضا ومن حيث المفردات اللغوية بالتأكيد، وهنا لا بد أن ننحي جانباً فكرة «الأزمة» بين الأجيال بمعنى أن كل جيل يضيف بقدر ما يمتلك من موهبة، وكذلك بقدر ما يمتلك من معطيات واقعية، وتقنية، وكذلك بقدر ما يدور حوله من قضايا اجتماعية وسياسية. ويضيف د. العلامي: أنا ضد أن يقال الجيل الفلاني أفضل من الجيل الحالي، والعكس، فكل الأجيال أفادت الحركة الأدبية والفنية العربية، كل على قدر استطاعته، وعلى قدر موهبته، وبالتأكيد في كل جيل علامات فارقة يستضاء بها، تكمل في النهاية المشهد الأجمل في الثقافة العربية. حتى في المدارس الأدبية، فالمدارس الحداثية استفادت من المدارس الكلاسيكية والرومانسية، فالعلاقة بين الأجيال من وجهة نظري هي علاقة تكاملية، وليست علاقة تضاد، كما يروج لها البعض، أو علاقة تفاضل، فإلى الآن ما زال شعراء العامية على سبيل المثال في مصر، متأثرين بتجربة فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي، رغم الخصوصية التي تتميز بها بعض الأصوات الجديدة، إلا أن هؤلاء هم الرواد الذين وضعوا الأسس الفنية للقصيدة العامية المصرية.بالمثل في الشعر، فرغم اختلاف مدارسه وتياراته إلا أن أحداً لا يستطيع أن يتغاضى عن تأثير صلاح عبد الصبور في معظم الأجيال التالية له على مستوى الوطن العربي، وكذلك بدر شاكر السياب، ومحمود درويش، هؤلاء أيقونات شعرية، وفي الرواية ما زالت الأجيال الجديدة تعتمد على الأسس التي وضعها نجيب محفوظ، وحنا مينه، ويوسف إدريس، وعبد الرحمن منيف، والطيب صالح، وغيرهم من كبار الأسماء العربية في هذا المجال، فهؤلاء هم آباء المعرفة العربية. أنصاف المواهب يتفق مع هذه الرؤية الروائي أحمد مجدي همام قائلاً: رغم أني من الجيل الجديد إلا أنني لا أرى وجوداً لأزمة بين الأجيال المختلفة، وأن من يروجون لوجود صراع بين الأجيال هم من أنصاف المواهب، فالمبدع الحقيقي لا بد أن يركز في إبداعه أولاً وأخيراً، أما إذا انشغل بالصراعات التافهة فلن ينجز شيئاً على الإطلاق، النجاح بطبيعة الحال يتحقق بعكوف المبدع على إبداعه، وعدم الدخول في معارك وهمية، فلم نجد مثلاً عميد الرواية العربية نجيب محفوظ يدخل في معارك مع أجيال سابقة، أو لاحقة، بل كان دائم الاعتراف بفضل من سبقوه، وكذلك كان شديد الاحتواء للأجيال التالية له، مدافعاً عن إبداعهم وتجاربهم في الكتابة، وكان يعمل بمبدأ «دع ألف زهرة تتفتح» في حين أنه من ناحية أخرى كان شديد التركيز في مشروعه الروائي والقصصي، لذا أنجز عشرات الأعمال السردية الخالدة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأدب العالمي.ويؤكد الروائي محمد إبراهيم طه أن وجود أجيال متعددة في ثقافة دولة ما، هو علامة صحية، ودليل على تجدد إبداعها وثقافتها، ونحن في عالمنا العربي محظوظون لوجود أجيال متعددة حققت طفرة نوعية في الإبداع الروائي والشعري والقصصي والمسرحي، وكل أنواع الفنون البصرية والمسموعة، فبحر الإبداع العربي لا ينضب بل يتجدد باستمرار، أما عن وجود أزمة بين الأجيال المختلفة فلا توجد أزمة، وهذا ما نلمسه يومياً من وجود علاقات جيدة بين المبدعين، فحين تناقش رواية أو ديوان شعر في ندوة ما تجد المنصة عليها نقاد ومبدعون من أجيال مختلفة، وهذا دليل على تواصل الأجيال.لو رجعنا إلى فترة الستينات في الثقافة المصرية لوجدنا شاعراً كبيراً مثل صلاح جاهين يكتب باباً خاصاً في مجلة «صباح الخير» تحت عنوان «شاعر جديد يعجبني» قدم من خلاله أهم شعراء العامية المصرية الذين يمثلون الأركان المهمة في هذا الجانب في مصر. أزمة حقيقية يختلف مع هذه الرؤية الشاعر فارس خضر، مؤكداً أن هناك أزمة حقيقية بين الأجيال المختلفة، فكل جيل أدبي يظن أنه الأفضل، وأنه أتى بما لم يأت به أي جيل من قبله، وما لا يستطيع أي جيل من بعده أن يأتي به، فإلى الآن ما زال بعض أبناء جيل السبعينات يظنون أنهم الجيل الأفضل في الثقافة العربية، مشيرين إلى أنهم اعتمدوا على تقنيات جديدة في الكتابة ومن خلال فعل «التثوير» على مستوى الرؤية، وعلى مستوى الكتابة نفسها. تناحر فكرة المجايلة موجودة في العالم، وعلى أوسع نطاق، لكنها تأخذ أشكالاً أخرى أكثر تحضراً مما يوجد في الثقافة العربية، فهناك حالة من الاحترام المتبادل، والاعتراف بالفضل لأهله، ولا توجد حالة التناحر والصراع الضاري الذي نجده في أوساطنا الثقافية والذي يصل أحياناً إلى ما يشبه الثأر، ففي ستينات القرن الماضي مثلاً، وجدنا أن عباس العقاد وهو أحد رموز الثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكان وقتها رئيساً للجنة الشعر في مصر يرفض قصيدة الشعر الحر التي لا يكتبها، ويحول نصوص شعرائها مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي إلى لجنة «النثر» ويهاجمهم هجوماً ضارياً.كذلك وجدنا في بداية الخمسينات عند صدور كتاب «في الثقافة المصرية» لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، كيف أن مفكري الأجيال السبقة مثل طه حسين والعقاد، وغيرهما، يرفضون ما جاء فيه من أفكار، وهكذا تواصل هذا الصراع ما بين جيل السبعينات وجيل الستينات وجيل الخمسينات في الشعر المصري والعربي، بل كان هناك صراع ما بين شعراء التفعيلة، وشعراء قصيدة النثر، منذ منتصف خمسينات القرن الماضي الجدار الأزرق في ظل سيادة الواقع الرقمي والثقافة الرقمية لم يعد هناك مجال لما يسمى «أزمة الأجيال»، أو «صراع الأجيال»، لأنه اتضح أن ذلك مجرد وهم، الآن هناك ثقافة توضع على أرضية مختلفة على الجدار الأزرق وهناك قارئ لا يأبه لمقولات مسبقة، لا يؤمن إلا بذائقته هو، من دون تدخل من الآخرين.

مشاركة :