لنترك العنتريات جانباً. حسناً فعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه لم يقفز إلى رد فعل عسكري على إسقاط إيران طائرة استطلاع أميركية. وحسناً فعل بأن جمّد (لم يُلغِ) خطوة الضربات العسكرية لإيران.فالاستراتيجيات لا تصنع على شاشة التلفزة، ولا تبنى وفق منطق السمعة والهيبة فقط، بل يستند صانعها إلى محددات دقيقة للمصالح والحسابات والمكاسب وضمن سياق زمني مستقبلي مرئي بوضوح.ماذا تريد إيران وماذا تريد أميركا؟ هنا بيت القصيد.تعرف إيران على نحو دقيق أن أميركا دخلت عملياً دورة الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وتعرف أن الوقت المتاح حتى هذا التاريخ لا يسمح بولادة تفاهمات سياسية كبيرة تؤدي مثلاً إلى رفع العقوبات أو الوصول إلى اتفاقات من مثل عودة ترمب إلى الاتفاق النووي، أو استبدال اتفاق آخر به يحفظ ماء وجه الطرفين. ما تريده إيران هو إنهاء فرصة التجديد لترمب لولاية ثانية. ببساطة مطلقة لا يريد صانع القرار الإيراني 4 سنوات أخرى مع ترمب. أما السبيل إلى ذلك، وفق التصور الإيراني، وهو تصور ليس بعيداً عن الواقع، فهو جرّ ترمب إلى مواجهة محدودة ومدروسة تحدث شرخاً بينه وبين الكتلة الصلبة في قاعدته الانتخابية وتبدد حظوظه في البقاء بالبيت الأبيض حتى عام 2025. وهي تعرف أن الاستفزاز يجب أن يبقى عند حدود قابلة للمعالجة، الأمر الذي يثبته أن إيران لم تتعرض لطائرة أميركية أخرى على متنها أكثر من 30 جندياً أميركياً كانت تحلق في الأجواء نفسها التي أسقطت فيها طائرة الاستطلاع.انتقاد الحروب الأميركية في الشرق الأوسط كان واحداً من أبرز العناوين التي خاض على أساسها ترمب الانتخابات وجذب الناخب الأميركي عبرها، مخاطباً شريحة عريضة من الأميركيين القلقين، والخائفين على وظائفهم ومكتسباتهم وغدهم، لا سيما بعد الانهيار الاقتصادي والمالي الذي شهده عام 2008.بهذا المعنى يتصارع الإيرانيون مع ترمب، على الناخب الأميركي. تخوض إيران معركة لكسب الرأي العام الأميركي ضد ترمب، عبر إظهاره بأنه مقبل على حرب في الشرق الأوسط. وتخوض معه معركة على كسب الرأي العام العالمي الذي تسنده ماكينة هائلة من الإعلام الليبرالي الأميركي لإثبات أن رئاسة ترمب رئاسة مارقة وتغامر بمصالح الأميركيين مع العالم.على عكس إيران التي لا تقيم وزناً للرأي العام الداخلي الإيراني، يبني ترمب خياراته بالنظر إلى الرأي العام الداخلي الأميركي ولا يقيم وزناً للرأي العام الخارجي. لا ننسى أن ترمب خرج من الاتفاق النووي خلافاً لهذا الرأي العام الدولي تحديداً الذي تمثله حكومات شركاء أميركا في مجموعة «5+1».أما الرأي العام الداخلي الأميركي فيعرف أن ترمب لا يريد حرباً أخرى في الشرق الأوسط. خيار ترمب بهذا المعنى سيبقى مزيداً من العقوبات المؤلمة لإيران. عقوبات... عقوبات... عقوبات.الحقيقة أن ترمب سجل بعدم خضوعه للهوبرة الإيرانية نقطة ضد دعاية الحزب الديمقراطي ضده بأنه ليس سوى «جمهوري محارب آخر»، وأفقد كلام الديمقراطيين مصداقيته وجعله يبدو مجرد اتهامات انتهازية في موسم الانتخابات.وسجل نقطة أخرى بأنه حقق الجزء الأكبر من النتائج الردعية للضربة من دون ضربة لإيران تشعل حرباً لا يريدها. فهو عرض بالتفصيل شكل ما كان سيقدم عليه وحدد عدد الخسائر البشرية الإيرانية المتوقعة (150 قتيلاً)، لكنه قرر تجميد ذلك، مما يعني أن إيران باتت تعلم ما يمكن أن تواجهه فيما لو بالغت في استفزاز أميركا.النقطة الثالثة التي حققها الرئيس الأميركي هي أنه يحوز الآن أمرين معاً؛ فهو يضع في جيبه كل نتائج الاتفاق النووي، ولا يدفع من جيبه أياً من الالتزامات المترتبة على الاتفاق. في المقابل، فإن خيارات إيران تتراوح بين التنصل من مترتبات الاتفاق عليها وتغامر بخسارة التعاطف الدولي معها، وأن تستمر ملتزمة بالاتفاق من دون أيٍ من نتائجه الموعودة، مع احتفاظها بهامش مناورة إعلامي وسياسي كمثل خروجها من بند هنا أو بند هناك من بنود الاتفاق الموقع مع دول «5+1».وفق هذا السياق والمعطيات ستمضي إيران بلعبة الاستفزاز المدروس، وسيستمر ترمب بلعبة العقوبات وإنهاك إيران اقتصادياً، وكل من الطرفين عينه على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. لكنها لعبة خطرة، وتاريخ التردد الأميركي حيال الحروب لا يعني أن أميركا لا تقْدم بعد تردد... فمثلاً تردد الرئيس فرنكلين روزفلت بشأن المشاركة في الحرب العالمية، وأعلن الحياد في بدايتها، لكن خطأ اليابانيين في استهداف ميناء بيرل هاربور جعله يعلن الحرب على اليابان وينهي الحرب العالمية الثانية لمصلحة العالم الحر. أما جون كيندي فناور كثيراً خلال أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا متنقلاً بين خيارات اجتياح كوبا، والمواجهة العسكرية، وربما النووية، مع الاتحاد السوفياتي، قبل أن يصل إلى تسوية مع الكرملين أنهت الأزمة.إيران سجلت نقاطاً معنوية خلال الأسبوع الماضي، لكن صرفها متعثر خارج الجلوس إلى الطاولة مع واشنطن. سلوك النظام الإيراني يقول إنه لا يستطيع الإقدام على هذه الخطوة، وبالتالي سنشهد مزيداً من التوتر، وربما مزيداً من احتمالات الانزلاق نحو حرب لا يريدها أحد.
مشاركة :