الفيروسات المعدلة جينيا تحيي آمال الشفاء من الأمراض القاتلة

  • 6/25/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعقد العلماء آمالا عريضة على بعض التجارب الجديدة التي أجريت على نسخ معدلة وراثيا من مجموعة من الفيروسات في التوصل إلى طرق أفضل لمكافحة أكثر أشكال البكتيريا والفيروسات مقاومة للعلاج، وبداية عهد جديد خال من الأمراض المزمنة والمستعصية. وتوجد حاليا مجموعة من العلاجات والعقاقير التي بإمكانها أن تبقي العدوى ببعض الفيروسات (فيروس نقص المناعة البشرية، وبعض الفيروسات الكبدية…) تحت السيطرة لعدة عقود من الزمان، ولكن يظل التوصل إلى علاج يقضي على هذه الفيروسات نهائيا هو السلاح الأفضل، ولاسيما في الدول النامية، حيث تكاليف الأدوية وغيرها من العوامل يمكن أن تجعل العلاج الفعال بعيدا عن متناول الكثيرين. وعلى مدار الأربعين عاما الماضية كان المجتمع العلمي يتعلم كيفية تعديل الحمض النووي البشري باستخدام الفيروسات، وكان العمل صعبا للغاية والتقدم بطيئا ولكن يسير بخطى ثابتة. وكانت نقطة البداية في عام 1952 عندما اكتشف علماء الأحياء الطريقة المثيرة التي يستخدمها الفيروس لحقن حمضه النووي بداخل الخلية، للتكاثر وإنتاج فيروسات جديدة. علماء استخدموا مؤخرا فيروس نقص المناعة البشرية لتصنيع علاج جيني ساهم في شفاء أطفال مصابين بمرض وراثي نادر ومع تطور تقنيات الهندسة الوراثية في السبعينات، بدأ العلماء في محاكاة هذه الظاهرة البيولوجية الطبيعية، واستخدام طريقة الحقن الفيروسي لغرض إدخال نسخ سليمة من الجينات إلى المريض وتصحيح عيوب الحمض النووي. وأراد بول برغ، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1980، استخدام الفيروس القردي “أس.في 40”، كحصان طروادة قادر على حمل دواء جيني في جسم شخص مصاب بمرض وراثي، وتلت ذلك محاولات عديدة لأنواع مختلفة من الفيروسات بدرجات متفاوتة من النجاح. واستغرق الأمر ثلاثين عاما قبل رؤية أول نجاح حقيقي لعلاج جيني بقيادة البروفيسور الفرنسي آلان فيشر من مستشفى نيكر بباريس، الذي تمكن من تصحيح خلل وراثي يتمثل في عجز في الجهاز المناعي لدى الأطفال. نقطة الانطلاق كان استكمال مسودة الخارطة النهائية للجينوم البشري التي يطلق عليها اسم “كتاب الحياة” في عام 2003، والتي يعتبرها العلماء معلما بارزا في تاريخ العلم يقف إلى جانب المنجزات العلمية الكبرى مثل الهبوط على القمر واكتشاف الكمبيوتر، العلامة الفارقة ونقطة الانطلاق للعديد من الأبحاث، منها فهم أصل الأمراض الوراثية وتحديد ما يميز البشر عن الأنواع الأخرى والاختلافات الوراثية بين الأفراد وكيفية التعبير عن الجينات. وقد ساهم كل ذلك في تطوير العلاج الجيني الذي بدأ يشق طريقه بفعالية ويحقق نجاحات مذهلة، ويتم حاليا تسويق العديد من أدوية علاج الجينات في الولايات المتحدة وأوروبا والصين. ويعول الكثير من العلماء على هذه التقنية لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض والوقاية منها، مثل الأمراض الوراثية والأمراض التنكسية وأمراض التمثيل الغذائي وأمراض المناعة الذاتية، ومن غير المستبعد أن يشهد العالم حقبة جديدة في تاريخ الطب ستعود بنفع عظيم على الصحة البشرية. وشهد هذا القطاع تطورا متسارعا في السنوات الأخيرة، وبدأت كل من إدارة الغذاء والدواء الأميركية ووكالة الأدوية الأوروبية والصين في اعتماد منتجات العلاج الجيني. وفي عام 2017 وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على أول علاج جيني لسرطان الدم القاتل، وتتجاوز تكلفة العلاج 475 ألف دولار للمريض الواحد، ويسمى هذا العلاج “كيميريا” ويعمل عن طريق إعادة برمجة خلايا الدم البيضاء عن طريق الفيروسات المعدلة جينيا وتوجيهها إلى الأورام السرطانية العدوانية. وفي عام 2018 شهد العالم موافقة تاريخية من إدارة الغذاء والدواء على منتج علاج الجينات “لوكستورنا” المصنع من قبل شركة “سبارك ثيرابيوتكس”في فيلادلفيا من ولاية بنسلفانيا، وقد صمم هذا العلاج للأفراد الذين يحملون نسختين طافرتين من جين يسمى “آر.بي.إي 65”، وتقود هذه الطفرات إلى تدمير مستقبلات الضوء في الشبكية، ويتألف العلاج من فيروس محمل بالجين الطبيعي يتم حقنه في العين. ومؤخرا حصل دواء أطلق عليه اسم “زولغنسما” من إنتاج شركة نوفارتس السويسرية، على موافقة إدارة الغذاء والدواء، وسيصبح قريبا متاحا في الأسواق بسعر مليونين و125 ألف دولار أميركي وهو أغلى دواء في العالم، ويعطى مرة واحدة لعلاج ضمور العضلات الشوكي الوراثي، ويعاني ما بين 10 آلاف و25 ألفا من الأطفال والكبار من هذا المرض المميت في الكثير من الأحيان. وتتعدد التجارب السريرية المعتمدة على الفيروسات كنواقل جينية، فعلى سبيل المثال استخدم علماء أميركيون مؤخرا فيروس نقص المناعة البشرية “ايتش.آي.في” لتصنيع علاج بالجينات ساهم في شفاء ثمانية أطفال مصابين بمرض وراثي نادر، المعروف علميا باسم نقص المناعة المشترك أو “طفل الفقاعة”، وترجع هذه التسمية إلى قصة الطفل ديفيد فيتر المصاب بالمرض والذي تم احتجازه في فقاعة لتعزله عزلا تاما عن البيئة المحيطة به لحمايته من التعرض لأي نوع من أنواع العدوى. وحسب صحيفة نيويورك تايمز، يتضمن العلاج التخلص من بعض خلايا المريض، واستخدام فيروس نقص المناعة المكتسب لإدخال الجين المفقود، وإعادة الخلايا عبر حقن وريدي. الفيروس المعدل جينيا أصاب الأنسجة السرطانية فباتت أكثر وضوحا، ما ساعد على تنبيه وحشد النظام المناعي للجسم لمحاربتها وبعد أشهر قليلة، من علاج الأطفال تطورت لديهم مستويات طبيعية من أجهزة مناعة صحية وأفرزوا كافة أنواع الخلايا التي يحتاجونها للتصدي للعدوى. وفي مدينة أكسفورد أصبحت جانيت أوزبورن أول شخص في العالم يستفيد من العلاج الجيني ضد أحد أكثر أشكال العمى شيوعا، (الضمور البقعي المرتبط بتقدم العمر) وهو تلف في منطقة صغيرة بالقرب من مركز شبكية العين تسمى البقعة وهي مسؤولة عن الرؤية المركزية. وحقن الجراحون جانيت في الجزء الخلفي من العين بفيروس غير ضار يحمل جينا اصطناعيا، يصيب الفيروس خلايا الشبكية ويطلق الجين مما يسمح للعين بإنتاج بروتين مصمم لمنع الخلايا من الموت وبالتالي الحفاظ على صحة البقعة. وبالإضافة إلى العلاج الجيني يمكن أن تكون الفيروسات مفيدة أيضا في مكافحة الالتهابات البكتيرية، فعلى سبيل المثال أصبحت شابة بريطانية مصابة بالتليف الكيسي في الرئتين تدعى إيزابيل هولداواي أول شخص في العالم يعالج بواسطة فيروسات معدلة وراثيا بعد إصابتها بعدوى بكتيرية قاتلة انتقلت إلى كبدها ورئتيها، ولم تعد للمضادات الحيوية أي تأثير عليها. وأظهرت حالة إيزابيل التي بلغ وضعها حد اليأس وأكد الأطباء أن فرص نجاتها لا تتخطى الواحد في المئة، قدرة الفيروسات المعدلة وراثيا على مكافحة البكتيريا ويعد ذلك سبقا علميا كبيرا، من شأنه أن يشكل أداة مستقبلية هامة في المعركة ضد ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. محاربة الورم أعرب العديد من العلماء في أنحاء مختلفة من العالم عن تفاؤلهم بشأن إمكانية برمجة وتطويع الفيروسات لإيجاد علاج محتمل لبعض الأورام السرطانية الدماغية غير القابلة للشفاء. وفي هذا الصدد تمكن فريق من الباحثين بجامعة نافارا الإسبانية بالتعاون مع مركز البحوث الصحية مؤخرا من استخدام أحد أنواع الفيروسات لعلاج “الأورام الدبقية” عند الأطفال التي تعتبر في مقدمة أكثر أنواع الأورام الدماغية شيوعا، إذ تمثل 20 بالمئة من جميع أنواع السرطانات التي تصيب الأطفال. ويعول الأطباء على العلاجات التقليدية كالتدخل الجراحي والعلاج الكيميائي والإشعاعي، إلا أنه هناك العديد من هذه الأورام لا تستجيب لتلك العلاجات، ونظرا لذلك صمم الباحثون فيروسا بالهندسة الوراثية يحقن مباشرة داخل الورم ليوقف عملية تناسخ خلايا الورم وتكاثرها وذلك عبر استهداف البروتينات المسؤولة عن نشاط الانقسام المفرط في الخلايا الورمية الدبقية.وتقول مارتا ماريا الونسو رولدان أستاذة علوم الأورام الصلبة بجامعة نافارا إن الفيروس المعدل الذكي قادر على قتل الخلايا السرطانية، مع عدم الإضرار بالخلايا الطبيعية وهو ما تفتقر إليه العلاجات التقليدية. ولاحظ فريق البحث نتائج جيدة للغاية في التجارب ما قبل السريرية وهي خطوة أولى إيجابية في الرحلة باتجاه الاستخدام الإكلينيكي. وفي جامعة ليدز البريطانية طور الخبراء فيروسا يسمى “الفيروس الريبوزي” يحقن في دم المريض بدلا من حقنه مباشرة في الدماغ، ويتجه الفيروس إلى إصابة الخلايا السرطانية، وثبت في أول تجربة على مريض أن هذا الفيروس قد تمكن وبنجاح من العبور من الدم إلى المخ، رغم الغشاء الواقي الذي يحيط بالدماغ والمسمى حاجز الدم في الدماغ. وكشف تحليل لعينات من الورم أن الفيروس أصاب الأنسجة السرطانية التي تبدو كغيرها من خلايا الجسم، والأنظمة المناعية ليست جيدة في رؤيتها، فباتت أكثر وضوحا، ما ساعد على تنبيه وحشد النظام المناعي للجسم لمحاربتها. ويأمل الباحثون أن يقود الأمر في النهاية إلى علاج له أثر كبير في محاربة هذا المرض الخبيث الذي يحصد أرواح الكثيرين. ويعتبر المحللون أن العلاج بالفيروسات المعدلة جينيا قد وصل إلى درجة من النضج سيضعه على المدى القصير كمجال رئيسي للعقاقير الجديدة والفوائد العلاجية المحتملة قد تكون كبيرة للغاية، ولكنه في الوقت نفسه لا يخلو من بعض المخاطر والتحديات التي تتراوح بين الآثار الجانبية غير المعروفة على المدى الطويل، والتكاليف المرتفعة التي قد تعيق قدرته على أن يصبح متاحا لعامة الناس. ولاشك أن مثل هذه المسائل ستحل تدريجيا على المدى البعيد وأن الاستثمار وزيادة التجارب في هذا المضمار سيجعلان العلاج آمنا وتكلفته ستنخفض باستمرار.

مشاركة :