حين تزور مشغل عبدالكريم الوزاني، غالبا ما يكون وحيدا، يملأ بمنحوتاته ولوحاته وتركيباته الفراغات، من فناء الحديقة، إلى الحيز المفتوح، حيث تستكين المواد الخام، وتتراص المشغولات، إلى السلم المفضي إلى السكن الممتد كمتحف. تتوزع التشكيلات المعدنية في هياكل كائنات محدبة، ومقعرة، ومجوفة، ولكنها تمتد دائريا كلها، لتشكل ما يشبه عجلات/ وجوه، يتشابك بعضها في ما يشبه حلقات سلسلة، قد تشرع في تأملها لا إراديا بوصفها ذواتا، تصطنع لنفسها مسارات متناظرة، برغم تنائي صيغها، وتفرع أدواتها وأساليبها، ولا تفتأ ترتد لقاعدة واضحة، حيث التماثل قائم على تخفف الهياكل من لحاءاتها واكتنازها، لتلتصق بالدعامة الأولى التي تشكل نواة الظاهر، ونسغ الداخل المضمر. حظيرة الصمت والكلام تتخايل من الهياكل الملتبسة بالمعدن واللون وتحوّل الأعضاء، كائنات في وضعية حركة معلقة، حركة بالفعل، ودونما خداع للنظر، استعارات أبقار وماعز وأسماك وطيور وأشجار، مشتبكة بدوائر تستدعي أمثولة الثور والأرض، صانع التوازن في الأسطورة القديمة، وبشر ينمو ويتفرع أحيانا، ويشتبك بالعجلات أحيانا أخرى، ويلتصق بكل هذا المحيط المزدحم بالكائنات الأليفة والمؤنسة والغريبة والشائهة والمفزعة أيضا. لكل تلك الحيوانات قصص، من السمكات المرتدة إلى مجرد حسك، إلى الماعز الضامر، الحامل لضرع سخي.. حكايات متصلة بالمنبت، ومحيط اليفاعة، والسفر، والجوار… لهذا لا يفتأ عبدالكريم الوزاني يربط الكائنات بجدوى الإصرار على الاستمرار في مكابدة العيش، هناك حيث تطل دوما من نوافذ المشغل، أو من كوى الذاكرة. هل هو البحث عن أنيس مفتقد في الصداقات ودوائر القرابة، المستدرجة دوما إلى التلاشي مع مضي الزمن؟ محتمل، وربما أيضا الإحساس بأن الأنس وليد الاتصال مع الأشياء والذوات، التي لا نشاركها لغة التخاطب، وإنما جبلّة الفهم والإحساس والتعاطف.في هذه الحظيرة الفسيحة التي شيدها الوزاني لكائناته، يولد الأنس من تخطي الشعور بالكتل كرموز، ومنحها طاقة الوجود من حيث هي نظائر لذوات، لها حياة ومسارات، وهموم ولذائذ، وخوف أزلي من الفناء. تتراص عبر اللوحات والتركيبات خيالات قادمة من مدونة خوان ميرو وبيكاسو وجياكوميتي وآخرين… هكذا يطفر النظير مبددا الوحشة وفراغات الكلام والفعل والحركة. من يتردد على مشغل الوزاني يعيش تجربة بصرية خاصة، مشفوعة دوما بتدفق كلامي، ينهمر التعبير عبر مقاطع ومفردات يومية لا تصطنع التعقيد، تراوح بين المدونات واللغات والرطانات، تحس وكأنما ذلك المعنى المكتوم المتصل بحوارات افتراضية مع ذوات خرساء تؤنسه، تختمر وتتضاعف في ردهات الذاكرة، متطلعة إلى الخروج، لهذا تجد ملامح الكلام تطفر من الغضون والتقاسيم، من النظرة الوديعة والساهمة، والحادة أحيانا، إلى حركات اليد، وترددات النطق. ذوات في وضعيات إنصات وأخرى في وضعيات نطق، رؤوس طيور وأسماك تنظر في عيني بعضها، أبقار وماعز في حالة تخاطب مؤبّد، أنصاف دوائر هي الوضع النهائي لأفواه، تنادي وتصرخ وتتثاءب وتتأهب لالتهام شيء ما. عجلات تنبت لها جذوع تتفرع منها آذان صاغية، أوراق شجر وأزهار تشخُص كآذان تنبت فيها عيون، وعيون بوضع السمع، وآذان بوضع النظر… فانطازيا مدوّخة تمثّلُ الحواس، مجتاحة الجوارح، والهياكل، وكتل الأجساد، وتفاصيل الذوات. وفي مقابل هذا المشهد الضاجّ بالصمت، لا يخلو كلام الوزاني من تمثيلات بمفردات مدبّبة، تنحو إلى إخراج المعنى بمظهر مرح، لا أقول ساخرا، فشحنة الهزل تنأى عن الوخز، تتقدم الكلمات بوصفها حواشي على المجسمات والتنصيبات والكائنات المعلقة، وكأنها عتبات غير لازمة، بيد أنها موحية. طبعا لا وجود إلا للصمت ففي كل تلك الفراغات التي تحاصرها مشغولات المعدن في منحوتات الوزاني الملونة، صمت يضمر الكلام ولا ينفيه، مثلما يجمد الحركة والفعل والانفعال. هو جدل دائم إذن ذلك الذي يجعل الناظر في حديقة الوزاني، يقف مشدوها أمام الحكايات السرية لدراجاته وعرباته وحيواناته الأليفة وطيوره المستأنسة، وذواته الأخرى ونظائرها الشبيهة والمرافقة. دوائر للعب في اللعب نحتاج لأنيس ونحتاج للكلام أيضا، لكن اللعب في المشغل لن يكون إلا قناعا، أو تورية، لهذا يتخلص الوزاني من رغبة التشارك تدريجيا، ليغوص في عمق التعبير التطهري، ثمة بالطبع ملكوت طفولي بتفاصيل واضحة؛ الألوان المبهجة: الأزرق والأصفر والأحمر والأخضر والبرتقالي، في المنحوتات واللوحات والتنصيبات، وفي الأثاث وتصاميم الطرز، والموائد والأباجورات والأصص، ثم التواتر الدائري للهياكل، والذوات المتحولة من أجساد لدنة إلى قوالب واختزالات خطية، كائنات تتحول تدريجيا لمركبات لها عجلات، وسيارات تنبت لها عينان، دراجات بهياكل ثيران، وقوافل ماشية تستحيل قطارات.. اختراقات لا تخلو من رغبة في إعادة تخطيط علائق المحيط والذات، مع انزياحات منغرسة في جوهر لعبي. ولأن الوزاني مسافر أثيل فهو لا يرى الحياة والأجساد والكائنات إلا في وضعية تنقل وارتحال، لا تمضي إلى مستقر دائم، لنقل إن الفنان ينزع الاستقرار عن الشيء والكتلة، ليهبه طاقة الاستئناف، في مسارات مسترسلة، تلك التي تجعل الذوات والنظائر الأليفة تتقمص في كل مرة أوضاعا مختلفة. من هنا يبدو مفهوم “الآلة” جوهريا في اشتغال الوزاني مثلما هي الدوائر، فالزمن المنذور للتكرار والعودة في كل مرة إلى نقطة البدء، وتواتر الموت والولادة لا يتجاوز منطق الآلة، فبقدر ما يلتهم الزمن العمر، يمنح الوجود لذوات أخرى ونظائر لا حدّ لها. والتحول المظهري الذي ينتهك الأجساد في المعدن ويشوه التجلي الطبيعي ما هو إلى تكثيف لسر الطاقة الساكنة في آلة الجسد وآلة الشيء الملتصق به والحامل له، من الكرسي إلى السيارة إلى الأرجوحة إلى القطار. في الحظيرة الفسيحة التي شيدها الوزاني لكائناته، يولد الأنس من تخطي الشعور بالكتل كرموز، ومنحها طاقة الوجود يشتغل الوزاني أساسا على أسياخ حديد ضامرة يشكل منها الوجوه والأجساد والمراكب والمزيج السحري الناقل لاستعارة الجسد، وفي اشتغاله على المعدن الصلب البارد يحافظ على إيهام الضمور والهشاشة، مما يجعل من الذوات علامات ناقلة لأحاسيس مناقضة للصلب والبارد، لتنغمر في العاطفي الحار والشديد الوقع، ذلك الذي يسكن كل الكائنات المنذورة للعيش. بديهي إذن ألا يلتقط الرائي لتشكيلات الوزاني غضونا ظاهرة ولا تقاسيم ولا حتى ملامح مكتملة، ترتكز النُّصُب أساسا على القاعدي: الجذع والرأس والأطراف، في وضعيات معلقة، كأنها على حافة الزمن؛ هكذا يمسك الشخص المختصر إلى أطراف بعصا أو بحبل، في عراك مع نقطة التوازن، للاستمرار في البقاء. وهل ثمة -في النهاية- شيء في الحياة إلا التشوف لالتقاط النفس، والاستمرار في القفز، وتجنب المطبّات، ثم التصالح مع محيط يفقد التوازن باستمرار؟ في منحوتات عديدة ولوحات أنجزها الوزاني عبر مراحل متفرقة كان سحر التوازن مقترنا بالأرض والماء، وبالدائرة الحاملة لهما، وبالمضي قدما إلى المجهول، والجارف. وبتراكب طبقات الخطر، قد نجد عجلة على حبل فوقها راكب مغامر، ثم لاعبا على عجلة فوق عجلة تسير على حافة حبل ينتصب على حامل ضامر مشرئب إلى الفراغ، ثم عجلتين هما عينان في النهاية يفصل بينهما خط، حبل، أو سيخ حديد، هو نظير وجه أو شيء… تركيبات متنوعة خصيبة، ومفعمة بألغاز الكون، الذي هو طاقة قبل أن يكون صورة أو ماهية. يتقن الوزاني عمل التعرية وتجاوز ما يعيق الجوهر، والانتهاء إلى الهيكل السحيق الذي يقول المعنى بعد إزاحة ما يشوّشه من الظاهر المرائي والخادع. لذا يبدو الأمر أشبه ما يكون بشغف هندسي حيث التركيز على الأصل، ولا مجال للحساب هنا، ولا حتى للمنطق؛ نحت الوزاني عمل تخييلي بطاقة مدهشة من المرح.
مشاركة :