يسعى كتاب “لظى القلب.. قراءات في التصوّف العربي وآثاره” للناقد سعيد الوكيل إلى تأمل الأدب الصوفي وتجلياته الإبداعية، وامتداداته في النصوص العربية المعاصرة. مؤكدا أن الإبداع الصوفي – نثره وشعره- قد مثَّل نبعا لإغناء الروح والفن، وظل كنزا مخفيا، إلى أن سعت إلى قطف ثماره عقول متفتّحة من العرب والمستشرقين. وقد ازداد الشعور بنفاسته حين تقاطرت ألفاظه ونفحاته الروحية في الإبداع المعاصر، وهو أمر جدير بالنظر المتأمل. وفي ضوء هذه الرؤية جاءت بعض فصول الكتاب لتتأمّل الإبداع الصوفي في ذاته، أو في علاقاته بالنصوص اللاحقة، انطلاقا من تاريخ التصوف ومحطاته الفكرية الحاسمة ومرورا بأعلام الصوفية وقراءة رموزهم وعدد من نصوصهم كرابعة العدوية وابن الفارض والنفري والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي والحلاّج. كما يرصد الكتاب علامات التمرد والاستسلام من الحلاج إلى السهروردي، والرحلة بين النص القرآني والنص الصوفي، وأثر الكتابة الصوفية في الكتابة الروائية المعاصرة، حيث يقوم بتحليل روايتي “التبر” للروائي الليبي إبراهيم الكوني و”العابرون” لمحمد إبراهيم طه، وانتهاء بملحق: نصوص صوفية مختارة. الرحلة والتمرد في كتابه، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، أشار الوكيل إلى أن المتأمل لتاريخ تلقي النصوص الصوفية من عامة القراء يدرك ما يكتنف ذلك التلقي من تحفظات، أسهم في خلقها نفر ممن عميت قلوبهم عن قراءة تلك النصوص التي تكشف عن الجانب الروحي الباطني العميق في الإسلام؛ وهو ما يمثل الوجه السمح الذي غفلنا عنه كثيرا، وآن أن يكون لكل منا إسهام فيه ولو بالتلقي المحبّ. وانطلاقا من فرضية ترى أن الرحلة ذات المغزى المعرفي إلى العالم الآخر في الأدب العربي نهضت على مجموعة من التقاليد تأسست في النص العربي المركزي (القرآن الكريم) واستمرت في النص الصوفي، تناول الوكيل الرحلة بين النص القرآني والنص الصوفي، حيث لاحظ أن الرحلة في القرآن لم ترتبط تقاليدها بنقطة الوصول بوصفها هدفا، بل ارتبطت بالهدف المعرفي من الرحلة واستندت إلى مجموعة من الأفعال المحورية هي أفعال الرؤية والتضحية والمعرفة، كما تميّزت ببعض الميزات الجمالية لعل أوضحها الاتصاف بالعجائبية. ثمة علاقة وثيقة بين التصوف والإبداع والاتصال بمنابع الجمال والجلال والترقي في المعارج الروحية والجمالية والتخييلية وقال الوكيل “تبيّن أن الرحلة القرآنية ذات أبعاد مكانية وزمانية، كما أن لها أهدافا معرفية روحية؛ ومن ثم تم التركيز على استمرار تقاليد الرحلة في النص القرآني داخل نصوص الرحلة العربية التي تهدف إلى الوصول إلى العالم اللامرئي، سواء أكان ذلك العالم أخرويا أم روحيا كامنا داخل الإنسان”. وتبيّن للباحث أنه على الرغم من أن النص القرآني يتميز بالإجمال في مقابل التفصيل الذي يميّز نص المعراج الصوفي، فإن العناصر الأساسية في النص المصدر (المركزي) ظلت متواترة دائمة الحضور في النص الجديد، متيحة الفرصة لدخول عناصر أخرى لم ترد من قبل. كذلك تبيّن بدراسة نصوص الإسراء والمعراج عند ابن عربي تواتر متوالية من الوحدات الحكائية في كل نص منها. وقد برزت الحاجة إلى تأمل أبعاد أخرى ترتبط بأساليب السرد في النص القرآني والصوفي لاستكشاف عناصر الالتقاء والابتعاد، أما الملمح الفني الأكثر وضوحا في علاقة نص الإسراء والمعراج الصوفي بالنص القرآني فتمثل في التناص، وارتبط أشد الارتباط بالرؤية التي يقدمها المبدع الصوفي، حيث يعيد تأويل النصوص على نحو لا يحدث صداما حادا مع ظاهرها، كما يتسق بنائيا مع رؤية الصوفي للعالم. ولفت الوكيل في قراءته للتمرّد والاستسلام من الحلاج إلى السهروردي إلى أن التمرد قد يحمل في داخله بذور الإخلاص والإيثار، كما ظهر عند إبليس والحلاج. وقال “إننا في حقيقة الأمر لسنا بحاجة إلى تبرئة الشيطان، وإنما نحن بحاجة إلى تبرئة التمرد الذي يحمل قيما إيجابية. علينا أن نفرّق كذلك بين الفكر الصوفي المتمرد، ومظاهر السلوك الانتهازي الخاضع لدى بعض الطرق الصوفية. وإذا كان يحق لنا أن نتواصل -في كل آن- مع القيم التي نتوارثها؛ فإننا نستطيع أن نفيد من الرؤية التي انتهينا إليها، والتي لا تنظر إلى التمرد بوصفه قيمة سلبية بشكل مطلق، وإنما قد تحمل داخلها قيما إيجابية لا تتبدى للوهلة الأولى”. وبالنظر إلى الواقع الذي نعيشه الآن يمكننا، في رأي الوكيل، أن نرى الأمور على غير الوجه الذي قد يراد أن يُبذر في وعينا. لنا أن نتساءل مثلا: هل التمرد على النظام العالمي الجديد، في محاولة للخروج عن الهيمنة العاتية، يعد خرقا للنظام وخروجا على الشرعية، أم إخلاصا لمفهوم الإنسانية وخلاصا لها، بعيدا عن صخب القمع الإعلامي؟ وهل خروج مظاهرات مؤيدة للشعب العراقي أو لأي شعب محاصر مظلوم يُعدّ خروجا على النظام أم إخلاصا للوطن، وإيمانا بحق الإنسان في أن يحيا كريما ويموت كريما غير مكره؟ هل التمرد يكون دائما خروجا وخرقا، أم أنه قد يكون صرخة صادقة ضد موت الإنسان؟”. الصوفية والأدبرأى الوكيل أنه على الرغم من أن ثمَّ حضورا كثيفا للأدب الصوفي في الكتابات الإبداعية الحديثة، وذلك عبر التداخل النصي واتخاذ الأقنعة الصوفية وغير ذلك من التوسلات الفنية؛ فإن المتلقي يشعر بوجود هوة فنية ورؤيوية بين النص الصوفي القديم والنص الإبداعي الحديث. ولعل ذلك راجع إلى أن التجربة الصوفية تجربة غنية المبنى عميقة المعنى كثيفة الترميز جريئة الطرح، لا تنتهي عجائبها، ولا تنقضي غرائبها. ولقد كانت العلاقة بين الجمال والتصوف والإبداع والفنون بصفة عامة علاقة أصيلة؛ لأن التصوف يرتبط بأصل الجمال كله وهو الحقُّ مبدع الوجود والموجودات؛ فثمة علاقة وثيقة بين التصوف والإبداع والاتصال بمنابع الجمال والجلال والترقي في المعارج الروحية والجمالية والتخييلية، حيث هذا التجاذب الفني والتداخل الصوفي بين الإبداع ومنبع الجمال وأصل الجلال ومصدر الكمال. ومن ثمَّ كانت التجربة الصوفية رحلة روحية معراجية تغوص في عالم الأحوال عابرة لعالم الأقوال، لا تني ولا تقر باحثة عن الحق والحقيقة. وأكد الباحث أن الموروث الصوفي العربي قدم نصوصا ومواقف ورؤى وتصورات تصل إلى الحالة القصوى من الجلال والجمال والإبداع. نرى ذلك في الموروث الصوفي شعرا ونثرا: في مخاطبات النفري، وفتوحات ابن عربي، وحكم ابن عطاء الله السكندري، والمنقذ من الضلال للغزالي، وكتابات الحارث المحاسبي، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد، والحكيم الترمذي، والشبلي، والسراج الطوسي، وأبي طالب المكي، وشعر ابن الفارض، والحلاج، والسهروردي، وغيرهم الكثير ممن يند عنهم الحصر، حيث الروح الصوفية إدراك ذوقي أصيل ينبع من معاناة الروح، وجهاد القلب، وكدح اللغة للترقي في معارج التخييل والتشكيل إلى ما وراء الحروف والكلمات والدلالات. تأسيسا قال الوكيل “إن النص الصوفي لم يكن نصا عاديا تقليديا، بل كان نصا إبداعيا جسورا خلاقا عماده التأويل لا التفسير والتعليل، ظاهره الجمال وباطنه الجلال. إنه نص مشغول بتحطيم التابوهات، ويتميز بالجسارة على الخوض في تأمل المقدسات، والتحرر من القمعيات، والبحث في مسائل الألوهية والكون والوجود والاتحاد والحلول والفيض والعشق والمرأة والخصوبة وترميزات الغزل؛ حيث التنقل الروحي والوجودي من الحسي الدنيوي إلى الرباني الروحي، وما يستتبع ذلك من إبداع النص رموزه الخاصة ومصطلحاته السرية الهائمة في عوالم الظاهر والباطن والأحوال والمقامات والمشاهدات والمكاشفات والشريعة والطريقة والحقيقة والذوق والوجد”.
مشاركة :