في إطار ما تشهده منطقة الخليج من توترات وتصعيد متبادل، للأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران؛ والذي كان آخر فصوله إعلان الأخيرة إسقاط طائرة مسيَّرة أمريكية من طراز «إم.كيو - 4 سي ترايتون»، يوم20 يونيو، بزعم اختراقها مجالها الجوي -وهو ما نفته واشنطن- الأمر الذي دفع بالرئيس «دونالد ترامب» إلى اتخاذ قرار بالرد العسكري، وتراجعه عنه في اللحظات الأخيرة، وعقد البيت الأبيض اجتماع حرب تشاوري، وما أعقبه من وعود وتصريحات على لسان مسؤولين في الإدارة الأمريكية برد فعل قوي، فضلا عن التوترات التي سبقتها إثر تعرض ناقلتي نفط في خليج عُمان في13 يونيو إلى هجوم. وكانت 4 سفن تجارية قد تعرضت في المياه الإماراتية الاقتصادية خلال شهر مايو لعمليات أخرى تخريبية، وتم استهداف محطتي نقل للنفط في السعودية، بهجوم من قِبل طائرات من دون طيار حوثية مدعومة من إيران. وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن «البنتاجون جهّز فجر يوم21/6. لضربة عسكرية تجاه مواقع إيرانية تشمل بطاريات صواريخ ومنظومة دفاعية ورادارات، منها «نظام الصواريخ S-125 Neva / Pechora» وأن القوات الأمريكية في المنطقة، وضعت في حالة تأهب، وكان من المقرر أن تنفذ الضربات في غضون ساعة، لكن تم إرجاؤها غير أنها بقيت معتمدة». مضيفة، أن «ترامب» تراجع عن تنفيذها قبل 10 دقائق، وذلك عقب الموافقة عليها وتحديد المواقع التي سيتم استهدافها». جدير بالذكر أن قرار الرجوع المفاجئ أوقف ما كان سيصبح ثالث عمل عسكري لـ«ترامب» ضد أهداف في الشرق الأوسط، حيث إنه ضرب مرتين أهدافًا في سوريا في 2017 و2018. وكانت قناة «فوكس نيوز» قد أوضحت أن تعليق «ترامب» للضربة العسكرية، لا يتنافى مع موقفه الحازم بشأن عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، والذي أكده بقوله أنه «لا يمكن لإيران أن تحصل على أسلحة نووية أبدًا»، مؤكدا أنها أصبحت اليوم أضعف مقارنة ببداية ولايته، بفضل العقوبات المفروضة عليها». وفي إطار هذا الواقع، أعلنت محطة «إن بي سي» الأمريكية أن الرئيس الأمريكي بعث في اليوم التالي لاستهداف الطائرة، رسالة إلى إيران، عبر سلطنة عُمان؛ للتحذير من «هجوم أمريكي محتمل ستكون له عواقب إقليمية ودولية» (نفته الإدارة الأمريكية)، وفي نفس اليوم طلبت واشنطن عقد اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي يوم 24/6. لبحث آخر التطورات المتصلة بإيران، والحوادث الأخيرة التي تعرضت لها ناقلات نفط، والتي قالت إنها ستقدم فيه أدلة على تورط طهران في تلك الحوادث. وفي هذا الصدد يقول «إيمانويل غونزاليس» من «كلية دفاع حلف الناتو»، «أطلقت إيران الرصاصة الأولى في الحرب بإسقاط الطائرة الأمريكية، والأمر لا يحتاج إلى جهد للتأكد من أن قرار «ترامب» لن يستغرق وقتًا طويلا، وستكون هذه الحرب مفاجئة من حيث الأهداف والتحركات وحجم القوة وتنوعها». وسط كل هذه التوترات، يأتي حرمان إيران من تصدير نفطها من أشد العقوبات الأمريكية إيلامًا، فهو يتسبب في خنق اقتصادها، ففي أعقاب إسقاط الطائرة الأمريكية، ارتفع خام برنت إلى ما يزيد على 65 دولارًا للبرميل، ويتجه لتحقيق صعود نسبته 6% الفترة القادمة، بحسب مراقبين بفعل مخاوف من شن الولايات المتحدة هجومًا عسكريًّا على إيران، ما قد يعطل تدفقات النفط من منطقة الشرق الأوسط، التي توفر ما يزيد على خُمس الإنتاج العالمي منه. وتعد إيران واحدة من أكبر دول العالم من حيث احتياطيات الطاقة، باحتياطي نفط يبلغ أكثر من 132 مليار برميل، كما أنها ثاني أكبر منتج ومصدر بين دول الأوبك، وتشكل صناعتها النفطية أهم قطاعاتها الاقتصادية، حيث يوفر لها80% من متحصلاتها من العملات الأجنبية أي نحو 100 مليار دولار سنويا. وفي بدايات القرن الحالي كانت تنتج 5.1% من إجمالي إنتاج النفط العالمي (3.9 ملايين برميل يوميا)، وحافظت على هذا الوضع حتى نهاية العقد الأول من الألفية. ومع ذلك، فإنه بالنظر إلى الحظر الدولي، الذي فُرض عليها بين عامي (2012 - 2016)، فقد تأثر اقتصادها؛ بسبب تراجع إنتاجها النفطي إلى أقل من 3 ملايين برميل يوميا بداية من عام 2012. وتراجعت صادراتها النفطية إلى أقل من مليون برميل يوميا، ما مثل أهم الضغوط التي أوصلت إيران إلى الاتفاق النووي. غير أنه بعد رفع العقوبات عنها أخذت تخطط لاستثمارات في صناعاتها النفطية بنحو 500 مليار دولار حتى 2025. وكانت هذه العقوبات موجعة لاقتصادها، وعطلت توقيع اتفاقيات تهدف إلى استخراج النفط من حقول جديدة، وتعد فضلاً عن سوء الإدارة السبب الرئيسي لتدهور قيمة عملتها، ووصولها إلى حالة التردي الكبرى التي آل إليها اقتصادها، حتى اضطرت الحكومة إلى تقنين توزيع البنزين، فيما كانت تستورد نحو 40% من احتياجاتها منه. وفي مايو الماضي انتهت مهلة الشهور الستة، التي كانت الإدارة الأمريكية قد منحتها لثماني دول تشتري النفط الإيراني هي (الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا واليونان وإيطاليا)، لإعفائها من العقوبات. وفي العام الذي سبق عودة هذه العقوبات كان الاقتصاد قد حقق نموًا بلغ 12.5%، وقاد هذا النمو قطاع النفط والغاز. وفيما يتجه ترامب إلى جعل صادراتها النفطية صفرا، انخفضت صادراتها في مارس 2019 إلى 1.1 مليون برميل يوميا، وخسرت بذلك أكثر من 10 مليارات دولار، في الوقت الذي أوقفت تايوان واليونان وإيطاليا شراء نفطها، وخفضت الصين والهند الكميات التي تشتريها منها، فيما تتجه طهران إلى الأبواب الخلفية؛ لبيع نفطها عبر التهريب الذي يصعب ضبطه. ومنذ عودة العقوبات الأمريكية أخذت عملتها في التراجع، وفقد الريال نحو 60% من قيمته مقابل الدولار في السوق غير الرسمي، وتسببت هذه العقوبات في تكالب الإيرانيين على شراء الدولار خشية مزيد من انهيار لقيمة عملتهم، خاصة أن العملة الأجنبية هي الوسيلة الوحيدة للحصول على احتياجاتهم. وأدى تدهور سعر الريال إلى شح في جميع السلع والمنتجات المستوردة، فضلاً عن الارتفاع الكبير في أسعارها. وطبقا لبيانات صندوق النقد الدولي، فإن الارتفاع الكبير في الأسعار قد رفع معدل التضخم المتوقع في 2019 إلى 37% بعد أن كان 31% في 2018. وامتصاصًا لغضب الشارع توسعت الحكومة في استيراد اللحوم والمواد الغذائية فيما كان المنتجون المحليون يبيعون إنتاجهم للخارج؛ للحصول على العملات الأجنبية، ومع هذا الوضع قد لا يكون هناك بديل عن استحداث نظام الكوبونات الإلكترونية؛ لمنع غضب الشرائح الفقيرة من الشعب. هذا الوضع الذي يمثله النفط للاقتصاد والحياة في إيران يفسر لنا الاعتداءات الأخيرة على المواقع والمنشآت النفطية في الخليج، حيث إنها بهذه الأعمال تريد أن تقول «أفرجوا عن النفط» - في رسالة إلى الشركات وإلى دول الخليج العربية المعتمدة على إنتاجه وتصديره، وإلى الإدارة الأمريكية - وذلك لما يمثله هذا القطاع في اقتصادها. ومن المعلوم أن العراق يحتفظ بعلاقات جيدة مع كل من إيران والولايات المتحدة ويقوم بدور توفيقي في محاولات رأب الصدع ومنع تدهور الأمور وانزلاقها إلى الحرب. وتعبر زيارة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح إلى بغداد عن حالة القلق القائمة على مستوى الخليج ككل وليس فقط الكويت، خاصة بعد استهداف الهجوم الإيراني في حادث البصرة مواقع تابعة لشركات نفطية أهمها شركة «إكسون موبيل»، النفطية الأمريكية العملاقة، لإيصال رسالة أنه على هذه الشركات التي تعد من أهم مجموعات الضغط في النظام السياسي الأمريكي أن تلعب دورها لدى الإدارة الأمريكية كي ترفع الحظر النفطي عن طهران. وفضلاً عن الجهود الدبلوماسية المعلنة، التي تقوم بها العراق واليابان؛ لخفض التوتر الإقليمي، فإنه على أبواب قمة العشرين، التي تعقد في أوزاكا في اليابان ويحضرها كل من ترامب وبوتين وقادة كبار دول العالم، فإن التصريحات الصادرة من كبرى دول الاتحاد الأوروبي، تبين أن هذه الدول ليست بمنأى عن تلك الجهود الإقليمية والدولية الساعية إلى خفض التوتر، كما أنه سيكون للاتحاد الأوروبي دور في مناقشة الملف النووي حين يأتي المسؤول الأمريكي المكلف بالملف النووي، (بريان هوك) إلى باريس قريبًا؛ لمناقشة الوضع مع المسؤولين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وتطلب إيران من هذه الدول، إما المساعدة في خفض العقوبات الاقتصادية عليها وفي مقدمتها الحظر النفطي أو مواجهة انهيار الاتفاق النووي، ومن ثم إطلاق يدها في المضي قدمًا في برنامجها من دون قيود أو التزامات. ولكنّ خروجها من الاتفاق النووي، الذي تهدد به سيدفع الاتحاد الأوروبي نفسه إلى العودة إلى العقوبات، وهو أمر تخشاه طهران، ولهذا فقد تواكب مع عمليات الهجوم على منشآت ومواقع نفطية إعلانها في 17 يونيو أنه خلال 10 أيام سوف تجتاز الحد المسموح؛ لتخصيب اليورانيوم المنخفض الدرجة بموجب الاتفاق النووي الموقع في عام 2015. وهو إعلان تقول به أنه لا بد من سرعة بذل الجهد؛ حيث تخشى مع مرور الوقت مع شدة وطأة هذه العقوبة، ثورة شعبية عارمة تودي بنظامها، ولهذا فهي تضغط بجميع الوسائل. على العموم، على الرغم من تسبب الاعتداءات الأخيرة على المواقع والمنشآت النفطية في الخليج، في ارتفاع أسعار النفط فإن هذا الارتفاع يخدم كل مصدريه في دول الخليج العربية، ويخدم بالأساس شركات النفط الصخري الأمريكية، وهو ما يجعل واشنطن لا تذعن لهذا الابتزاز، بل تعلن التزامها بأمن الخليج وأمن الممرات البحرية الدولية، في الوقت الذي يزداد فيه الاتجاه لتدويل إجراءات ضمان الملاحة في المنطقة، لتجد طهران نفسها أمام خيارين، إما الإذعان للشروط الأمريكية وعلى رأسها برنامجها الصاروخي والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ودعم الإرهاب، وإما الاستمرار في خضوعها للعقوبات وفي مقدمتها حظر تصدير نفطها. وعليه، نجد أن الجهود الدولية لخفض التوتر سيكون تأثيرها ملحوظًا، إذ إن وضع النفط في الاقتصاد لا يجعل النظام قادرا على الصبر الطويل، خاصة مع تفاقم سوء الأحوال المعيشية.
مشاركة :