عادة القراءات المعرفية تتوقف على سلطة اللغة وسلطة التأليف وسلطة الحقيقة.. وتذهب في الواقع إلى الإدراك وإلى الذهنية للقارئ. وتخضع في بعض مستوياتها إلى النفسية. وأحيانًا إلى السلوك؛ أي إن القارئ يسير على نمط محددٍ في قراءته للنص، قد نسميها ما يشبه العادة التي تعوّد عليها، وإن كانت متطورة فإننا نسميها «منهجية»، وعندما تصل إلى هذا المستوى فإنها تحمل سلطة مقابلة لسلطة المؤلف، ويكون التفاعل مع النص في أوجه، وفي هذه الحالة فإن المهارة تتكون ليتحقق المعنى في الذهنية، وهو معنىً تقبليٍّ يعتمد التأويل والتخزين، قد ينصب بعد ذلك في خانة الإنتاج عبر النقد أو التأويل مثلاً، وعدم الوقوف على حد نهائي للنص. وبهذا نضيف سلطة رابعة وهي سلطة القارئ. إن غالب الخطباء يمتلكون ميزة القراءة الترفيهية التي تنصب في تقديم الشواهد التي تعينهم على لفت انتباه جماهيرهم، ولهذا ألحظ أن تقلّب القارئ أو تحوّله من حالة إلى حالة وهو يسمع أو يقرأ لهؤلاء تكون سريعة، وبإمكانهم الانتقال من حالة إلى أخرى، دون أن تترسخ في أذهانهم حالة من الإبداع، أو حالة من الإنتاج؛ وهذا هو ديدن الخطابة يؤثر زمانيًّا ولا يدرك ثقل المكان الذي يجب أن يتحوّل إلى حالة ثقافية منتجة، لأنه لا يريد من المستقبل أن يُنتج بل يريده أن يستمر مستهلكًا لكلماته فقط، وهذه الحالة تشبه الطبيب الذي يمنح مريضه دواء هو الداء كي يستمر المريض في زيارة الطبيب ولا ينقطع عنه. إن الجرعات المسمومة المطعمة بجرعات من العلاج تبقي الشخص على حاله ولا تغيّره إلى الأحسن، واستمراريته على هذه الحالة تفيد الطبيب/ الخطيب المجيد للتوصيف وللبلاغة. ولا تعتقدوا هنا أن ما أرسمه هو ضد الخطابة، ولكنها مع القارئ وليست مع الخطيب، فالقارئ يستمتع هنا بما يستقبله، ويشعر أنه يعيش الوعي الذي يريده. والكاتب وهو يؤلف يعتقد أنه يقدم سلطته، وبما أنه حالة اتصالية غير مباشرة، قد لا يكون تأثيره كالخطيب، الذي هو حالة اتصالية مباشرة، ولن يصل إلى هذا المستوى إلا مع قارئ بلغ مرحلة رصد التيمات تمامًا، ولكنه يزرع جزئيات في القارئ، وتظهر ومضاتها في الجزء وليس في الكل لدى هذا القارئ، وقد يستشهد ببعض الجزئيات التي ترسخت لديه، ولكنه لا يستمتع أو يتفاعل بشكل واضح كتفاعله مع الخطيب، فتواصل القارئ مع الكتاب ليس كتواصله مع الشخص، قد لا يصنع الكتاب لذته، مثلما يصنع الجمع في موقف خطابي ما، فالجمع هنا يؤثر في الفرد، ويصنع له لذة. وهنا «هل الكتابة، ضمن اللذة، تضمن لي - أنا، الكاتب - لذة القارئ؟» (رولان بارت، لذة النص 25) عندما أطلق بارت هذا السؤال رد على الفور، بأن: «لا، بل ابدًا». أي إن الكاتب مهما حاول لن يصل للقارئ، ولكن اللعبة هنا ليست لعبة الكاتب، بل لعبة الإنسان نفسه، فالنفس البشرية صياغتها واحدة بكل تناقضاتها، بكل إيجابياتها وسلبياتها، ولهذا فإن الكاتب القارئ هو الذي يستطيع أن يلج إلى عمق القارئ المتحد فيه هو. قالت إيزابيل الليندي: كان الناس يدعونني كاذبة، وبعد أن أصبحت أكسب من الأكاذيب، صاروا يدعونني «كاتبة» ليست المسألة هنا متعلقة بسلطة اللغة ولا التلاعب بالألفاظ بتبديل حرف الذال بحرف التاء بل إنها متعلقة بسلطة القارئ، الذي يقوم بفعل «الفلترة» كفلترة الليندي لرواياتها تمامًا، وكأن هناك فعلاً موازيًا من قبل القارئ كفعل المؤلف تمامًا، فخروج المؤلف من حالة الكذب المكشوف، والمبالغة في سرد الحكايات، إلى حالة البلاغة الكاذبة أو الخداع في رسم صورٍ موازية للحياة، يصنع حوله حالة مغايرة لما كان عليه؛ وهنا يكمن دور التقمص لدى المؤلف الذي يقدم صورة من زاوية لم يصل لها المتلقي، وتمس جوانبها القارئ ليجعله كاتبًا وليس كاذبًا. ويتقبلها القارئ. النظرية الآن فولفغانغ آيزر كان يرى أن «النص إذا أبان عن إمكاناته، لن يسقط في فخ محاولة فرض معنى على قارئه.. وكأنه التأويل الصحيح والأحسن» وبالدرجة الأولى سيرتكز هنا على البلاغة التي يمتلكها هذا النص، أو المؤلف/ الكاتب فلا معنى لأن يكون النص بلا معنى. وفي هذا الشأن تحديدًا، وباتجاه الكاتب والقارئ، فإننا بتنا مع «الحداثة السائلة» نلحظ أن النصوص باتت بلا معنى، وتطرح الآن دون أن تمتلك أدواتها، وبعيدًا عن قواعد القارئ الذهبية. إن إستراتيجيات النص لم تعد ظاهرة أمامه، أو لعل توجهه أخذ طابع الذاتية المتطرفة، التي لا تقرأ أبعاد النفس البشرية، وليست المسألة ماركسية هنا كاتب ومجتمع، وقد تتصل بآيزر و«موت النص»، ليس من جهة خروجه عن المؤلف أو نشره لنصه، بل من جهة القارئ الذي لم يعد يلتفت إليه؛ إذ إن المصير الذي يحتم أن ينساق القارئ خلفه اليوم هو «الصورة»، فـ «الميديا» طغت على كل «لذة» في القراءة، وتحوّل العمل أو «النص» من قارئ إلى مشاهد مسترخٍ يتم تكوين صور ذهنية له لا يستنبطها هو بل إنها مُستنبطَة له من قبل مخرج هذه الصور، فالكاتب كان هو المخرج لصور القارئ الذهنية والآن لم يعد كذلك إذ إن وسيطًا حلّ مكانه ليصنع هذه الصورة، وهنا مكمن الخطورة على الكاتب، بحيث إنه أصبح غير فاعل.. مما أظهر أمامنا التالي: - النص حالة لا تسمح بالإنتاج، فهي تمرّ على وسيط، وهدفها الترفيهي أقوى من هدفها التثقيفي. - معالجة القراءة لا تشكل صورة ذهنية من بناء الجمل، فهي تأتي مفككة، ولا تلبي رغبة القارئ الجاد، بقدر ما تلبي رغبة المشاهد الناعس. - بنية العمل، وبإضافة الوسيط، لا تسمح بالتفاعل بين الكاتب والقارئ. بل بين المخرج والمشاهد. في الشكل المرفق سيأتي النص كاملاً، ولكن العمليات التي تأتي بعد خروجه من قبل المؤلف ليذهب إلى السيناريست أو المنفذ أو المخرج ستجعل الوسيط يتلاعب بالنص وقد تخرجه عن هدف المؤلف، وتخرجه أيضًا من تأويل النص من قبل القارئ، لأن تأويله هنا خضع لعملية في الوسط جاءت عبر الوسيط، ليصل النص في النهاية إلى القارئ وهو في أدنى مستوياته، وهنا تكمن الإشكالية، بحيث إنه وصل وهو مفرغًا من المضمون، وموجهًا للمشاهد وهو يحمل أيديولوجية المخرج، ولا يحمل أبعاد النص الأصلي الذي جاء من المؤلف. ولن يستطيع القارئ الذي اتفقنا على تسميته في البداية «المنهجي» أن يتعرف على تشكّل النص وخصوصية اشتغاله أو تبايناته لأنه يراه بصريًّا وهو مسترخٍ دون اندماج في النص نفسه، كما يحدث في «فعل القراءة»، إذ إن «فعل المشاهدة» يختلف عن «فعل القراءة»؛ فأحيانًا طقوس القراءة لها شروطها التي تلبي احتياجات الشخص أثناء القراءة، سواء طلب الهدوء أو عملية التركيز والدخول إلى أعماق الكتاب، بعيدًا عن أي أجواء أخرى تشغل عن فعل القراءة، قد تكون على رؤية إيتالو كالفينو « إنني أقرأ! لا أريد إزعاجًا» (لو أن مسافرًا في ليلة شتاء،19)، بينما في «فعل المشاهدة» قد تعلّق على رسالة وردت في «الواتسآب» وقد تتحدث إلى من جوارك، وقد ترد على جوالك وأنت تتابع المشاهدة دون انقطاع الصورة عنك، ولكن لم تندمج، بل إنك تكوّن صورًا تشاهدها، وبعد ذلك تنتهي مشاهدتك، وتردد إن ذلك «رائع» دون أن تكوّن فكرة واحدة عمّا شاهدته، لأنك تنتقل إلى صورة أخرى، في عصر «السرعة»، تشاهدها فتنسى الأولى، التي لم يبق منها سوى كلمة «رائع»، والرائع هذا لا ينعكس عليك، ولم تتحول إلى منتج - أيها القارئ - من خلال فعل المشاهدة. إن الحالة هنا لا تتعلق بمستويات أثناء المشاهدة، ولكنها تتعلق بأنماط يتم صناعتها من قبل «الميديا»، مثلها مثل الخطابة تمامًا، وهي توجه نحو أفكارٍ محددةٍ للمشاهد، ولا تعطي أبعادًا مثلما يعطيها الكتاب، بل تمنح صورًا لا تكاد تبين، هذه الصور يتم تخزينها، لتكون متواليات تترسخ في اللاوعي، وتصبح صورًا مكملة لبعضها ـ إن ترسخت ـ ترسل المشاهد إلى أيديولوجيتها وتحصره فيها، ولا تعطي أي لذة لتبحر عبرها مثلما يفعل النص/الكتاب، ومن هنا فإن المشاهد يسقط في قلب الاستهلاك ولا يصل إلى مستوى الإنتاج. ما قدمته هنا سيمثّل أزمة قادمة تجاه النص/ الكتاب، فما يتم عبر «الميديا» يشبه ما تم عبر «الخطابة»، وسيلزم المعنيين بالثقافة أن يرفعوا من نقاشهم في هذا الإطار، لأنه سيعيد الجماهير إلى الخطوط الأولى التي تأثروا بها، بحيث إن «الميديا» تحمل أيديولوجيتها، وستعصف بتوجه العقل العربي ليستمر تابعًا، وكأن «ثورة المعلومات» لم تخدمنا في شيء، أو لم تقدّم لنا سوى التكرار للخطيب في قالب متطور ترسمه «الميديا».
مشاركة :