في عالم سريع التغير، يحتاج صندوق النقد الدولي إلى مساندة من بلدانه الأعضاء، ومن هنا لا يساورني أدنى شك في أنه لو كان صندوق النقد الدولي غير موجود في الوقت الحالي، لكانت الأصوات قد ارتفعت داعية إلى تأسيسه. فبدون الصندوق، لم يكن هناك مقرض أخير حقيقي على المستوى الدولي عندما تقع الأزمات في بلد ما على نحو مفاجئ وتمتد آثارها إلى بلدان أخرى. ولكانت البلدان قد احتاجت إلى مستوى أعلى من التأمين الذاتي غير الفعال، بما في ذلك الاحتفاظ بمبالغ كبيرة للغاية في صورة احتياطيات دولية مكلفة، ولأصبحت أكثر ميلا إلى تسخير الأدوات الاقتصادية لتحقيق مصالح محدودة، ولقل تبادل المعلومات، ولأصبح المجال محدودا لتنسيق السياسات الاقتصادية من أجل الحفاظ على النمو والاستقرار العالميين.. ولكانت الأسواق قد أصبحت أقل انضباطا وكفاءة، وافتقر المشاركون إلى المعلومات والتحليلات والبيانات، التي تتضمنها التقارير القطرية والإقليمية الصادرة عن الصندوق، والإصدارات الدورية لتقارير آفاق الاقتصاد العالمي، والراصد المالي، والاستقرار المالي العالمي، التي ينتظرها كثيرون. وكانوا يفتقرون أيضا إلى الدور الذي يضطلع به الصندوق كطرف ثالث في التحقق من فعالية سياسات فرادى البلدان، وإلى الأثر التحفيزي المهم للقروض التي يقدمها وكان ذلك ليؤدي إلى زيادة خطر الإخفاقات الحكومية والسوقية، وإلى تواتر الأخطاء في مجال السياسات والأحداث السوقية الطارئة. وبالتالي إلى استنزاف قدرة فرادى البلدان على تحقيق نمو مرتفع واحتوائي وحماية الاستقرار المالي. ويجب أن نشير هنا إلى أن هذه المخاطر مرتفعة بالفعل نتيجة مجموعة التحديات الحالية، التي تواجه الاقتصاد العالمي. ولكن ماذا لو أن الصندوق قد تم تأسيسه اليوم، كيف كان ليختلف دوره عما عهدناه على مدار 75 عاما الماضية؟ كان الصندوق ليحتفظ بعديد من خصائصه الهيكلية، التي تصورها مؤسسوه، وكان ليستمر في ممارسة مهامه الأساسية بوصفه مؤسسة ذات عضوية عالمية وخبراء من الطراز الرفيع، ألا وهي: مراقبة سلامة فرادى الاقتصادات والاقتصاد العالمي، وإقراض البلدان المعوزة، ومساعدة الحكومات في بناء قدراتها على تشكيل السياسات الاقتصادية والمالية السليمة، وإتاحة منتدى للنقاش. ولكنه ينبغي، ويستطيع، بل يتعين عليه، أن يقوم بمزيد — أي الاضطلاع بدور قيادي وتيسيري أكبر في تهيئة النظام الدولي وتحوله بشكل منهجي. وللقيام بذلك، يجب أن يولي الصندوق أهمية أكبر لكيفية تنظيم عمل خبرائه، ودمج قضايا مثل التكنولوجيا والعدالة الاجتماعية والاستمرارية في أنشطته الأساسية، والتداخل بين مجلسه التنفيذي وإدارته العليا وخبرائه. غير أن أيا من ذلك لن يحقق هدف الصندوق ما لم تضطلع البلدان الأعضاء بمسؤولياتها على المستويين الفردي والجماعي. ويجب أن يقترن إصلاح الصندوق بزيادة حصص العضوية لدعم أنشطته، إلى جانب تعديل التوزيع بين بلدانه الأعضاء، وزيادة فرص الحصول على الموارد المالية المقترضة. كذلك يجب أن يقدم الصندوق طائفة من التسهيلات الإقراضية لتلبية مختلف احتياجات البلدان الأعضاء، وأن يركز على اختصاصاته الأساسية، مع مراعاة ضرورة أخذ آثار القضايا الكلية المهمة الأخرى في الاعتبار، مثل تغير المناخ، إلى جانب التعاون مع الوكالات متعددة الأطراف والإقليمية الأخرى. وسيكون صعود الصندوق إلى "موضع الصدارة بين أقرانه" على الساحة متعددة الأطراف نتيجة طبيعية لسمعته القوية، جنبا إلى جنب مع بنك التسويات الدولية، بوصفه المنظمة الدولية الأكثر كفاءة وتكنوقراطية وفعالية. بالرغم من ذلك، ينبغي أن يولي العالم مزيدا من الاهتمام بجوانب معينة في هيكل الصندوق وعملياته تحد من فعاليته ومصداقيته، وتؤثر تأثيرا بالغا في سمعته. وتتطلب هذه المجالات اهتماما في الوقت الحالي حتى يتمكن الصندوق من مواكبة التغيرات الملموسة في الاقتصاد العالمي، التي تزداد تعقيدا في ظل تطور الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة، وهياكل القوى المتغيرة على مستوى البلدان، وحالة فقدان الثقة العامة بالمؤسسات وآراء الخبراء، والعلاقات الاقتصادية والمالية المتغيرة على المستويين الوطني والدولي، والقوى الداعية إلى التفتت العالمي. وقد اتضحت بالفعل قدرة الصندوق على إجراء تغييرات ذاتية شاملة في أعقاب الأزمة المالية العالمية، التي كشفت عن أوجه قصور شديد في عملياته. ففي مجال الرقابة، عزز الصندوق مناهج الإنذار المبكر وأولى عناية أكبر بالشواغل الاجتماعية وقضايا الاستمرارية. وفي مجال الإقراض، استحدث أدوات إقراضية جديدة أتاحت الحصول على مزيد من الموارد وتركيز الجزء الأكبر من القروض في البداية، كما تضمنت آليات لتسريع عملية الصرف. وتحول تركيزه جزئيا إلى الشرطية، حيث يحاول في الوقت الحالي أن يراعي في إعدادها المخرجات النهائية، وليس مدخلات السياسات فحسب. وفيما يتصل بالحوكمة وعمليات التكيف الأخرى، عزز الصندوق صوت وتمثيل الاقتصادات النامية إلى حد ما، وأدرج عملة الصين في سلة عملات حقوق السحب الخاصة، كما طور من عملية إدارة المخاطر، وعمل على توسيع نطاق أنشطة التواصل الداخلي والخارجي، كما عزز مكتب التقييم المستقل، الذي يعد بمنزلة جهاز الرقابة الداخلية لدى الصندوق
مشاركة :