علم الجهل وهندسة التجهيل

  • 6/30/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

تدور أحداث رواية الكتاب إحسان عبدالقدوس (أنا لا أكذب ولكني أتجمل) والتي تحولت في عام 1981 إلى فيلم سينمائي قام ببطولته الفنان أحمد زكي والفنانة آثار الحكيم حول الشاب الجامعي الطموح (إبراهيم/ أحمد زكي) المتفوق في دراسته الذي يقع في حب (خيرية/ آثار الحكيم) ابنة أستاذه بالكلية، وفي نفس الوقت يحبها (هاني) زميلهم ولكنها تفضل عليه إبراهيم لتفوقه واجتهاده. إبراهيم من أسرة فقيرة جدًا تسكن بمنطقة المقابر، حيث يعمل أبوه حفارًا للقبور، وأمه تعمل بخدمة البيوت. وهذا الشاب يعاني من حالة من النفور والتمرد على وضعه وبيئته الفقرة، ونتيجة لذلك يتظاهر أمام رفاقه بالكلية أنه من أسرة ميسورة وغنية. وأما (خيرية) فمن عائلة ثرية وتسكن بأحد الأحياء الراقية، وهنا تقع المفارقة، فهو لا يخبرها بحقيقة الفرق في المستوى المادي بينهما، ولكن الأيام تكشف هذا الخداع على يد أحد زملائه، فتفاجأ الفتاة. وعلى الرغم من محاولة أسرة الفتاة للتعامل بعقلانية مع الموقف، خاصة أن إبراهيم يحاول أن يقنع الفتاة أنه (لا يكذب، ولكنه يتجمل كما تتجمل الفتاة بطبقات المساحيق والمكياج)، وفي المقابل فإن الفتاة تحاول أن تتقبل الوضع بكل الطرق إلا أنها في النهاية تشعر بالنفور منه وتتركه لأن الحقيقة عندها كانت أقوى من التجميل. يحاول إحسان عبدالقدوس أن يلخص لنا في الرواية مصطلح (تجميل المشوه)، أو بمعنى آخر (تجميل الأفكار أو الوجوه المشوه بطريقة جميلة لتقديمها للناس مغلفة بورق جميل) ولكن في النهاية فإن الحقيقة أقوى من ذلك. وتقديم الأفكار المشوهة للناس أصبح اليوم علما وفنا تقوم به الكثير من المؤسسات والدول لتغير معالم الحقيقة، فيقدم الكذب على أنه حقيقة، وذلك تحقيقًا لمبدأ مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية الألماني جوزيف جوبلز «اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس». وعندما يصدقك الناس فإنهم هم من سيقومون بالباقي، فهم لا يصدقون الكذبة فحسب، بل سيعيشونها، وكذلك فإنهم سيروجون لها على أنها الحقيقة المطلقة، وفي هذه الحالة فإن الحقيقة تصبح غريبة وغير مقبولة في هذا المجتمع، وهذا ما يطلق عليه اليوم مصطلح (علم الجهل وهندسة التجهيل)، فماذا نعرف عن ذلك؟ في الحقيقة لا يعرف بالضبط متى تبلورت هذه المصطلحات ومتى دخلت في علم الاجتماع، ولكن العديد من الدراسات أشار إلى عام 1979 حينما كشفت مذكرة سرية عن صناعة التبغ للجمهور عن مقترح حول التدخين والصحة، كُتب من قبل شركة براون ويليامسون للتبغ، والتي كشفت تكتيكات شركات التبغ الكبرى المستخدمة لمواجهة ما عرف آنذاك «بالقوى المعادية للسيجارة»، حيث تقول إحدى هذه التكتيكات «إن منتجنا هو الشك؛ لأنه هو أفضل وسيلة للتنافس مع الحقيقة الكائنة في ذهن الجمهور، بل هو أيضًا وسيلة لإقامة الجدل». وتشير الأدبيات إلى أن العالم ومؤرخ العلوم بجامعة ستانفورد العالم (روبرت بروكتر) استاء كثيرًا من هذا الاكتشاف، وبدأ الخوض في ممارسات شركات التبغ، وكيف أنها قد نشرت البلبلة والتشويش حول ما إذا كان التدخين يسبب السرطان أو لا. وجد بروكتر أن شركات السجائر لا تريد أن يكتشف المستهلك معرفة أضرار منتجاتها، وأنها أنفقت مليارات الدولارات للتعتيم على حقائق الآثار الصحية للتدخين. وهذا البحث أدى به إلى ابتكار المصطلح (الانتشار المتعمد للجهل، أو علم الجهل Agnotology)، والذي يشير إلى دراسة الجهل الناجم خاصة عن نشر بيانات علمية غير دقيقة أو مضللة. قال بروكتر «كنت أقوم باستكشاف كيف أن الصناعات الكبرى يمكن أن تعزز الجهل لبيع بضاعتهم، والجهل هو القوة». إلا أنه تبين بعد ذلك أن هذا الأسلوب لم يبدأ في السبعينيات من القرن العشرين، وإنما اتضح أنه أطلقته الدول الاستعمارية مع بداية القرن، وذلك في المؤتمر الذي عرف (بمؤتمر هنري كامبل بانيرمان) الذي عقد في عام 1906 واستمرت جلساته حتى عام 1907. وفي نهاية المؤتمر خرجت الدول الاستعمارية المجتمعة بوثيقة سرية أطلق عليها (وثيقة كامبل) نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك (هنري كامبل بانرمان)، وهي أخطر وثيقة وأخطر مؤتمر أقيم لتدمير الأمة العربية الإسلامية، وكان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة، وإلغاء الخلافة الإسلامية، مع إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم، ومحاربة أي توجه وحدوي إسلامي فيها، ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادٍ يفصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب، كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب إفريقيا ليس فقط فصلاً ماديًا عبر الكيان الصهيوني فحسب، وإنما اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ما أبقى العرب في حالة من الضعف. وتمخض عن هذا المؤتمر وتلك الوثيقة بعد ذلك (اتفاقية سايكس بيكو) في عام 1916 الذي أدى إلى سقوط الخلافة وتقسيم الدولة الإسلامية إلى دول ودويلات، ليس ذلك فحسب وإنما عزز كل هذا الدور الذي قام به (لورنس العرب) -وهنا يأتي دور نشر الجهل وهندسة التجهيل -بنشر ما يعرف باسم (الثورة العربية الكبرى) بهدف التحرر والاستقلال، ما أطلق عليه جورًا وبهتانًا الاستعمار العثماني واللجوء إلى الأصدقاء القادمين من أوروبا الإنجليز والفرنسيين والألمان وتلك الدول التي كانت بالأمس عدوة وأصبحت اليوم -بقدرة قادر- دولا صديقة، وذلك بطريقة (أنا لا أكذب ولكن أتجمل). وفي منتصف التسعينيات من القرن العشرين تبلور (علم الجهل وهندسة التجهيل)، إذ تبين أن وسائل التجهيل تتم وفق طرق علمية ومنهجيات رصينة، فلا تتم بطرق عشوائية بدائية، فقد وضع لها منهجية تقام على ثلاثة سبل ووسائل حتى يتم وفقها نشر الجهل بين الناس، وهي كالتالي: أولاً: نشر وبث الخوف لدى الآخرين؛ كيف يتم ذلك؟ ربما أقرب وأوضح مثال أمامنا في هذه اللحظة تلك الفترة التي تجمهرت فيها كل الدول العظمي لضرب العراق أثناء حكم صدام حسين بعدما قام بغزو الدولة الشقيقة الكويت، وكان سلاح الدول تلك الشائعة التي أطلقتها تلك الدول والتي تقول إن صدام يمتلك أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيميائية، وإنه إن لم تقم الدول المتجمهرة بتفكيك تلك الترسانة من الأسلحة عبر الدخول إلى العراق وإنهاء الحكم الديكتاتوري فإنه سيقوم بنشر تلك المواد الكيميائية على دول العالم، عندئذ سيموت عدد لا حصر له من البشر، وتم نشر هذه الشائعة، وتم نشر الكذب، وغلفت هذه الكذبة بمساحيق الجميل، وبدأ الخوف يدب في قلوب البشر، حتى أخذ الدول العظمي وثيقة عالمية لغزو العراق. وربما حادث آخر يمكن أن نتذكره كذلك، وهو ما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر من تخويف الشعب الأمريكي بالتطرف والإرهاب الإسلامي، ومن ثم الدين الإسلامي وكل ما يمس الإسلام بصلة، فانتشر الخوف من كل صاحب لحية ومن كل امرأة محجبة، وللأسف إن هذا الخوف وهذه الكذبة لم تتوقف عند الحدود الأمريكية فقط وإنما قام الليبراليون العرب ببقية المهمة، فقاموا بنشر مثل هذا الخوف وهذا الرعب عبر حكايات الأمريكية في كل أرجاء الوطن العربي، وأصبح كل متدين يخاف أن يظهر بمظهر المتدين، وأصبح الإسلام وتعاليمه غريبة في أرض الإسلام، وأصبح على كل من يرغب في الشهرة والبروز أن يشتم الإسلام وتعاليمه وكل ما يمسه، وانشئت محطات وقنوات تلفزيونية عربية تهاجم كل ما يمت للإسلام بصلة. ليس ذلك فحسب بل أصبحت تلك الكذبة حقيقة، وأصبحت الدول العربية الإسلامية تبرر وتنفي كل حادث انفجار يحدث في أي مكان من العالم حتى إن قام به بوذي أو هندوسي أو مسيحي أو يهودي. ثانيًا: إثارة الشكوك؛ وهذا ما قامت به شركات التبغ العالمية وخاصة في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين حينما تزايدت الدراسات العلمية المحكمة التي تحاول أن تربط بين تدخين التبغ وانتشار أمراض السرطان وخاصة سرطان الرئة، فقامت تلك الشركات بإنشاء ما عرف (لوبي التبغ)، وهذا اللوبي مكون من العديد من العلماء والأطباء والأخصائيين من مختلف التخصصات مثل الاقتصاد والسياسة والعلاقات العامة والتسويق وما إلى ذلك، هدفهم الوحيد التشكيك في كل الدراسات العلمية المنشورة التي تحاول إقامة رابط بين التدخين والسرطان، فتارة تشكك في نوايا القائمين على الدراسة، وتارة تشكك في منهجية الدراسة، وتارة تشكك في المراكز العلمية التي صدرت منها الدراسة، وما شابه ذلك، فأصبح المستهلك يشك في كل ما يقال حول التدخين وما يثار حول هذه العادة، وفي خطوة تالية تم إثارة الشائعات المعادية للحقائق العلمية، فتقول مثل هذه الشائعات – على سبيل المثال – إن التدخين لا يسبب كل تلك الأمراض وإنما نمط الحياة أو أيًا ما يكون، أو قد يقول قائل «جدي يبلغ اليوم من العمر الثمانين وهو يدخن وحتى الآن يعيش في صحة جيدة»، أو أن يقال إن السيجارة أو الشيشة الإلكترونية غير ضارة وما إلى ذلك من تشكيك في كل المعلومات العلمية، عند ذلك يصبح الكذب حقيقة، والحقيقة غير مقبولة. وبعد كل هذا التشكيك في مصداقية الصدق والحقيقة، فإن الشائعات والكذب تضرب كل تلك الحقائق في مقتل، وهو الهدف الأخير في مراحل هندسة التجهيل، ألا وهي الحيرة. ثالثًا: صناعة الحيرة؛ وتأتي صناعة الحيرة كنتيجة جلية وحتمية لهندسة التجهيل، إذ إن بث الخوف وإثارة الشكوك تجعل الإنسان بالفعل في حيرة، فعندما يثار – مثلاً – كل هذا الكلام واللغط حول الإسلام وتطرفه، وأن المتدين لا يرغب ولا يعرف في الحياة إلا الأكل والنساء، وأن أتباع الدين لا يرغبون في الجهاد إلا من أجل السبايا والنساء وما إلى ذلك، ويتم إنتاج العديد من المسلسلات والأفلام والقصص حول هذا الموضوع، وعندما يأتي من يشكك في كتب الصحاح وفي السيرة النبوية، ويقوم العديد من كتّاب الصحافة بالضرب تحت الحزام – كما يقال – حول هذا الموضوع، يصبح الإنسان المسلم في حيرة من أمره، عندئذ يسأل نفسه: هل فعلاً هذا الكلام صحيح؟ هل كل هذا من أجل النساء والمعاشرة والأكل وراحة البدن؟ هل.. هل؟ فيقع الكثير من الشباب – من الجنسين – في حيرة من أمرهم، وفريسة سهلة يمكن النهش من أجسامهم وعقولهم وقيمهم، لذلك فإنهم يهربون – سواء بأجسامهم أو بعقولهم ووجدانهم – بل ويسارعون بالهرب من كل رابط يربطهم ليس بالدين فحسب وإنما حتى من انتماءاتهم وقيمهم وفكرهم وحتى أوطانهم، فلا يكون لهم ملاذ إلا دول الغرب التي تفتح لهم الأيدي والقلوب، وليت الأمر يصل إلى ذلك بل تقوم دول الغرب بنشر كل ما يسيء للإسلام بصلة بسبب هذا الشباب أو تلك الفتاة. وهذا غيض من فيض، ويمكن القياس على ذلك الكثير، فبهذه الأسس وهذه القواعد يتم نشر الجهل بين الناس، ويتم هندسة العقول حتى يغلبها الجهل. يقول بعض الساسة «إن العلم والمعرفة قوّة، وهي قوّة لا يمكن مجابهتها إلّا بعلم الجهل وهندسة التجهيل، فهو العلم القادرة على بث روح الارتياب في الرأي العام، وخاصّة تلك الطرق الّتي تستخدمها جماعات الضغط عندما تكون مصالحها مهددة بفعل الاكتشافات العلمية. ويتعلق الأمر أن ننظر إلى الجهل ليس فقط بوصفه أمرًا محتومًا، أو كمحصلة ضروريّة من أولويات برامج البحوث لدينا، ولا حتى كفشل جزئي للنسق التعليمي، كما يريده نموذج الإفلاس، ولكن أن ننظر إليه بوصفه ناتجًا عن فعل ما. ويمكن إنشاء الجهل من كلّ العناصر، من خلال استراتيجيات التضليل، والرقابة، أو يمكن صيانته من خلال استراتيجيات الطعن في مصداقية العلوم ومن خلال فاعلين أفرادًا أو جماعات، سواء كانت دولة، مؤسسات أو جماعات الضغط». قال أفلاطون إن «الجهل أصل كلّ الشرور»، إذ إنه بسبب الجهل ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع، وينجم الطغيان والخضوع، وبسببه قد ينجم الاستبداد أو الفوضى، والجهل هو أساس الفساد وعدو الإبداع، سواء كان ذلك الفساد فسادًا سياسيا، أو ماليا، أو فكريا أو روحيا، ويمكن أيضًا أن يرتبط ذلك بالفساد السلوكي والفساد الأيكولوجي. يقول أحد الباحثين في هذا العلم «ويجمع كلّ المشتغلين في الحقول المعرفية أن المعضلة الكبرى الّتي تهدّد المجتمعات، أمنيًا وتنمويا، وتحرمها حقها في التطور، بل تحرمها من الاضطلاع بواجبها في فهم شروط التطور عبر الاستعانة بالمجتمعات المتحضرة، هو أنّ نخب هذه المجتمعات لم تتحرر من الجهل، وهذا هو العامل الأول الذي يجعل المجتمعات الّتي لم يتأسس فيها علم الجهل تستمر رازحة تحت أوهام المعرفة، لأنّها لم تتمرس بالعلم الّذي يكشف لها مواطن جهلها». وفي الختام يمكن أن نقول إن سقراط لاحظ أنّ النّاس يعيشون مغمورين في ظلمات الجهل بينما يتوهمون أنّهم يعرفون كلّ شيء، فلا يترددون في الإفتاء في أي شأن وإصدار الأحكام على أي أمر، ومن ثم يعملون على تعميم الجهالة. وهنا لا يسعني إلا أن أذكر الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة. رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما، فهل نحن نعيش الآن في هذا الزمان؟ Zkhunji@hotmail.com

مشاركة :