دراما صادمة ومثيرة عن قضية "فتيان سنترال بارك الخمسة"

  • 6/30/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

المخرجة الأميركية من أصول أفريقية، أفا دي فيرني، هي مخرجة الفيلم التسجيلي البديع “الثالث عشر” (2017) الذي رشح للأوسكار، والذي يكشف النظام القانوني الظالم المتعسف، والاستمرار غير الرسمي لنظام الرق، والاستعانة بطرق أخرى للإبقاء على الاستغلال “الاقتصادي” للسود من خلال السخرة (أصل فكرة العبودية). أما المسلسل الجديد فهو يتبنى أسلوب الدراما التسجيلية، مع بعض الإضافات الضرورية التكميلية. ويتكون المسلسل من 4 حلقات، يقدم في كل منها جرعة درامية مكثفة مدروسة جيدا جدا من جانب الكاتبة- المخرجة وفريق الإنتاج كله. الموضوع مستمد من الحادثة الحقيقية التي وقعت قبل ثلاثين عاما وعرفت باسم The Central Park Five أي الفتيان الخمسة الذين قبض عليهم على خلفية ما وقع في حديقة سنترال بارك في مانهاتن بنيويورك في 19 أبريل 1989. وقد عرفت القضية في وسائل الإعلام بهذه التسمية، إلا أن المخرجة لم تشأ أن تستخدم الوصف نفسه لأنه كما قالت، ينزع عن أبطال القصة أسماءهم بينما أرادت أن تعيد إليهم شخصياتهم وتتوقف أمام حالاتهم الإنسانية. ولكن ماذا وقع في سنترال بارك في تلك الليلة؟ دخل الحديقة عشرات الشباب السود من حي هارلم في نيويورك حيث تتركز أغلبية من الأميركيين من أصول أفريقية، كان منهم من اتجه إلى هناك لكي يمرح ويمزح ويتسلى، ومنهم أيضا من لجأوا إلى العنف فاعتدوا على بعض راكبي الدراجات، وسرقوا البعض، وعبثوا مع البعض الآخر. أما الفتيان فهم: أنترون وكيفن ويوسف سلام وكوري وايز وهم من ذوي الأصول الأفريقية، وخامسهم ريموند سانتانا وهو من أصل مكسيكي، فقد ذهبوا أيضا وربما يكون بعضهم قد تورط في بعض أعمال الشغب بحكم أنهم جميعا لم يتجاوزوا الخامسة عشرة، باستثناء كوري وكان في السادسة عشرة.ومع وصول الشرطة والقبض على عدد كبير من المشاركين في الشغب ألقي القبض على الفتيان الخمسة، وقد عثرت الشرطة بعد ساعات على فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، مجردة من ملابسها ومصابة بكسور في الجمجمة والظهر والواضح أنها تعرضت لاعتداء جنسي. كانت الفتاة تجري في الحديقة، وتم الاعتداء عليها واغتصابها بوحشية. كانت بيضاء، شابة، جميلة، تنتمي إلى أسرة من الطبقة الوسطى، لديها وظيفة محترمة في وول ستريت. لذلك أثار الحادث الرأي العام والصحافة بوجه خاص. أما الفتيان الخمسة فقد تعرضوا لضغوط شديدة من جانب الشرطة لكي يشهدوا على بعضهم البعض بما لم يره أي منهم، على وعد أن يتم الإفراج عنهم على الفور، لكن الاعترافات الكاذبة التي انتزعت تحت الضغوط النفسية، استخدمت ضدهم وقدموا للمحاكمة بتهم عديدة أخطرها الاشتراك في اغتصاب الفتاة التي ترقد بين الحياة والموت. وانتهت المحاكمة في العام التالي بإدانتهم وصدور أحكام عليهم بالسجن تتراوح من 5 إلى 14 عاما. وفي 2002 اعترف شاب ألقي القبض عليه وأدين في أكثر من حادث اغتصاب، بأنه مسؤول أيضا عن اغتصاب فتاة الحديقة، وأنه كان بمفرده، وأثبت تحليل الحمض النووي نسبة السائل المنوي الذي عثر عليه على جسد الفتاة، إليه. وبالتالي تمت تبرئة الشباب الخمسة من جميع الاتهامات. التأثير والإقناع القصة إذن معروفة ونهايتها معروفة إلا أن المسلسل جاء شديد التأثير والإقناع والصدق، بفضل السيناريو الدقيق المكتوب جيدا والقائم على دراسة خلفية الشخصيات وتكوينها النفسي والاجتماعي، والإخراج الذي لا يلجأ إلى الإثارة والمبالغات بل يلتزم بمنهج صارم يتسق مع منهج وأسلوب دي فيرني في أفلامها السابقة، والتصوير الذي يجعلنا نشعر بكابوسية أجواء التحقيق والسجن، وظلمة وغموض وتوحش أجواء الحديقة خاصة عندما نصل في الحلقة الرابعة إلى عرض حادث الاغتصاب بالتفصيل. كل هذه العوامل تجعلنا كمشاهدين نظل منتبهين، تصدمنا الوقائع والتفاصيل، نشعر بالتعاطف مع هؤلاء الفتيان الخمسة الذين تعرضوا لأبشع ما يمكن أن يتعرض له إنسان، نلهث وراء الأحداث التي تتداعى أمامنا، خاصة تداعيات علاقة الأبناء بأهاليهم، ثم كيف تمكن الممثلون جميعا من التماهي مع أدوارهم، وعاشوها وكأنهم عاشوها في الواقع. تميز طاقم الممثلين الذين قاموا بأدوار المحامين وممثلي الادعاء ورجال الشرطة والقاضي، ومن قاموا بدور الآباء والأمهات، وقبلهم الذين قاموا بأدوار الفتيان ثم من قاموا بأدوارهم بعد أن كبروا وأصبحوا شبابا. ممثل واحد فقط لم يتغير هو جاريل جيروم الذي قام بدور كوري وايز في فترتي الصبا والشباب. وهو الذي يحمل على عاتقه معظم مشاهد الحلقة الرابعة والأخيرة التي تعتبر أيضا أطول حلقات المسلسل. يكشف المسلسل من خلال السرد الدرامي المؤثر، عن تعرض الأولاد للتعذيب والاعتداء والحرمان عمدا من وجود أي من الوالدين خلال التحقيق معهم كما ينص القانون في حالة الأبناء القُصر، كما حرموا من الراحة والنوم والطعام والشراب لأكثر من 18 ساعة متصلة إلى أن انهاروا وارتضوا التوقيع على اعترافات بجريمة لم يرتكبوها بل إن أحدهم وهو كوري الذي لم يكن مطلوبا أصلا والذي تطوع لمرافقة صديقه يوسف سلام إلى قسم الشرطة لمؤازرته انتهى الأمر إلى تلفيق الاتهام له أيضا وضمه إلى لائحة المتهمين، وهو الوحيد من بين الخمسة، الذي سينال أقصى عقوبة ويقضي أطول فترة في السجن تخصص لها المخرجة مساحة كبيرة في الحلقة الرابعة. رصد التعصبمن البداية نرى كيف أن رئيسة قسم الجرائم الجنسية في شرطة نيويورك ليندا فيرستين أرادت تجنب هجوم الصحافة والإعلام، فاندفعت من منطلقات عنصرية واضحة، وأصرت على أن الأولاد الخمسة مذنبون مهما أنكروا التهم بالحادث، ويكشف المسلسل أنها عندما وجدت تناقضات واضحة في شهاداتهم الصوتية المسجلة أمرت بعمل المونتاج لها لكي تبدو متطابقة ولكن حتى هذا التطابق لم يتحقق، وأسندت القضية إلى قاضٍ معروف بموقفه المتشدد ضد السود من قضايا سابقة، وترافعت فيها ممثلة الادعاء إليزابيث التي كانت تبحث عن قضية ترفعها وتعلو بها رغم أنها لم تكن على قناعة بسلامة إجراءات الشرطة وأبدت تشككها في الاعترافات التي تم انتزاعها تحت الضغوط العنيفة. في الحلقة الأولى نشاهد كيف وقعت أحداث سنترال بارك ولكن دون أن نشاهد حادثة الاغتصاب، ثم القبض على الفتيان الخمسة، ثم تفاصيل التحقيق معهم والضغوط التي تعرضوا لها. وفي أحد المشاهد يأتي والد كيفن، يسمحون له بالدخول ليقنع ابنه بالاعتراف مقابل خروجه. الأب يضغط على الابن، يرفض الابن أن يشي بزملائه كذبا، يتصاعد إحساس الأب بالرعب مما يمكن أن يقع لابنه، يصر على أنه يجب أن يقدم للشرطة ما تريده، ملوحا لابنه بأن الشرطة تستطيع أن تفعل به ما تشاء.. ومع تكرار رفض الابن، يصل الغضب بأبيه إلى أن يرفع مقعدا ويلقيه ليصطدم بجدار الغرفة.. ينهار الابن، يعترف ويقر بما لم يحدث ويوقع على إفادته. لكنه لن يغادر بل سيحاكم ويسجن ظلما. ويتكرر الأمر بصور مختلفة مع باقي الأولاد. هنا يصل بناء المشهد وتصعيد الموقف الدرامي إلى الذروة. يهدف المسلسل إلى كشف عنصرية الشرطة وخضوع المحاكمة لضغوط الإعلام المصاب وكشف عيوب النظام القضائي الأميركي وعواقب الأحكام الظالمة وكيف يمكن أن تدمر حياة الشاب بعد خروجه من السجن حيث تنعدم فرص العمل الحقيقي أمامه، ويصبح منبوذا من المجتمع. في الحلقة الثانية نتعرف على مواقف أهالي الشبان الخمسة، والمحامين الذين تتم الاستعانة بهم، ثم كيف تسير المحاكمات. هنا يتخذ المسلسل طابع الأفلام التي تدور في داخل قاعة المحكمة، من خلال المرافعات واستجواب الشهود وغير ذلك، ويكشف غياب أي دليل مادي ملموس يثبت ارتكاب الشبان الخمسة الجريمة، ويكاد المتفرج يتنفس الصعداء وهو يشاهد انهيار مزاعم الادعاء، لكن الصدمة تأتي مع صدور أحكام الإدانة. هنا أيضا تتضح مواقف العائلات خاصة أمهات الفتيان الخمسة، والفروق الطبقية والاجتماعية بينهم والتناقضات التي تحول دون تعاونهم معا. القفز في الزمن لا نرى تفاصيل فترة السجن في الحلقة الثالثة بل يقفز المسلسل في الزمن بعد أن يقضي الفتيان الأربعة الفترة، بينما يبقى مصير كوري غامضا لا نعرف سوى أنه نقل إلى سجن بعيد مع الكبار كونه في السادسة عشرة بينما قضى الأربعة الآخرون الفترة في مراكز احتجاز الصغار، ولكنهم يخرجون الآن من السجن واحدا وراء الآخر، وقد كبروا وأصبحوا شبابا، ويلتحقون بأسرهم. من ناحية الصورة الاجتماعية والإنسانية تعتبر هذه الحلقة الأفضل فهي تتناول المشاكل التي يواجهها الفتيان الأربعة سواء داخل الأسرة أو في العودة إلى المجتمع. هناك مثلا ريموند المكسيكي الأصل الذي يجد أن والده قد تزوج من امرأة مكسيكية شابة وأنجب منها طفلا، وقد جاءت هي بأمها وشقيقتها وأبناء شقيقتها، احتلوا جميعا المنزل واستغلوا ضعف شخصية الأب- الزوج، وكيف تسعى الزوجة الجديدة لدفع ريموند إلى مغادرة المنزل. لقد عاد إلى صديقته التي كان مرتبطا بها من قبل. لكنه عاجز عن العثور على عمل. وفي الوقت نفسه يرغب في الانتقال للعيش مع حبيبته لكنه لا يملك المال لذلك يضطر إلى توزيع المخدرات وينتهي الأمر بالقبض عليه وعودته إلى السجن.وفي الحلقة الرابعة والأخيرة نتابع تفاصيل تجربة السجن من خلال تصوير مصير كوري الذي ينتقل من سجن إلى آخر، ويتعرض للاعتداءات، فسمعته تسبقه كونه أحد المغتصبين الخمسة في سنترال بارك، ولكي ينجو من الموت يرضخ لنصيحة أحد رفقاء السجن بأن يطلب البقاء في الحبس الانفرادي، ومع مرور الزمن وتحت وطأة الشعور الحاد بالانفصال عن العالم، يصاب بالاضطراب العقلي والهلوسة. تزوره أمه أحيانا في ذلك السجن البعيد، لكنه سيعرف أيضا خبر مقتل شقيقه صاحب الميول المثلية، وهي قصة يعود إليها المسلسل من خلال مشاهد “الفلاش باك”. وتعاني هذه الحلقة من الاستطرادات وتكرار مشاهد السجن والإطالة فيها دون إضافة حقيقية، كما أن قصة الشقيق المتحول جنسيا تحتل مساحة كبيرة دون ضرورة كونها خارج موضوع المسلسل. في هذه الحلقة نشاهد للمرة الأولى أيضا تفاصيل الاعتداء على فتاة الحديقة ليلا من قبل الشاب الذي يصبح نزيلا مع كوري في نفس السجن، ويتجه إلى التدين وتحت وطأة الشعور بالذنب يعترف ويصف جريمته تفصيلا، كيف اعتدى على الفتاة ثم سحب جسدها ثم سار في وسط الحديقة أمام الجميع وملابسه ملوثة بالدماء دون أن يتم القبض عليه. المسلسل مثل فيلم “الثالث عشر”، مصنوع من زاوية التعاطف مع الشبان الذين تعرضوا للظلم، فالشرطة مدانة، والقضاء عليه علامات استفهام كثيرة، والإعلام أصدر حكمه قبل أن تبدأ المحاكمة.. وصولا إلى النقد السياسي اللاذع في الحلقة الثانية حينما نشاهد كيف قام دونالد ترامب رجل الأعمال والملياردير الكبير، بإنفاق 85 ألف دولار لنشر إعلانات تحتل صفحات كاملة في أكبر 4 صحف أميركية، يطالب فيها بإعادة عقوبة الإعدام، وبما يفيد بضرورة تطبيقها على هؤلاء الشباب الخمسة.، ثم نشاهده في برنامج تلفزيوني وهو يدافع عن وجهة نظره ويتهكم على السود الأميركيين. في المشهد الأخير تظهر الشخصيات الحقيقية للشبان الخمسة، ونعرف أنهم حصلوا على تعويض مالي من شرطة نيويورك قدره 41 مليون دولار. بهذا المسلسل ترسخ نتفليكس أقدامها في عالم الأعمال الدرامية المثيرة للجدل، لتنافس غيرها من شبكات البث الرقمي عبر الإنترنت.

مشاركة :