فتح كل من البنك المركزي الأوروبي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أبوابه أمام تخفيف السياسة النقدية بخفض أسعار فائدة كل من اليورو والدولار، على التوالي، في بادرة متزامنة تعبر عن تزايد المخاوف المتعلقة بتباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي، من جهة، وتوقعات التضخم الآخذة بالتلاشي وهو ما يبرر التخفيف، من جهة أخرى. على وجه الخصوص، حاز معياران على كثير من اهتمام البنوك المركزية والأسواق: عقود المقايضة الأوروبية البالغة خمسة أعوام لأجل خمس سنوات - التي تكتب عادة 5y5y، إضافة إلى معدلات التضخم نقاط التعادل الأمريكية. على أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هما هذان المعياران؟ وما هي دلالاتهما؟ ولماذا توليهما البنوك المركزية والأسواق ذلك الحجم الكبير من الاهتمام؟ الإجابة تتطلب مقدمات تمهيدية: ما هو التضخم؟ بعبارة بسيطة، ترتبط ظاهرة التضخم بارتفاع أسعار السلع والخدمات، أو بالضبط المستوى العام لكليهما. وهذا قد يكون مقدار المال الذي يدفعه المستهلكون في محلات السوبرماركت مقابل شراء الخبز، أو تكلفة النفط التي تدفعها الشركات الصناعية. من هنا، فإن تأثير التضخم يكمن في خفض القوة الشرائية للمال المتوافر لدى المستهلك. التضخم في الأساس، يعني أن تصبح كلفة شراء السلع والخدمات أكبر من ذي قبل. يحاول مسؤولو البنوك المركزية عادة الحفاظ على مستوى التضخم منخفضا، على أن يكون ذلك فوق مستوى الصفر، حيث يستهدف كل من البنك المركزي الأوروبي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي معدلا للتضخم يصل إلى نحو 2 في المائة سنويا. يقاس مستوى التضخم الحالي بطرق متعددة. يولي مجلس الاحتياطي الفيدرالي أكبر قدر من الاهتمام بمؤشر الأسعار الاستهلاكية الشخصية، الذي يتعقب حجم المال الذي يدفعه المستهلكون مقابل شراء مجموعة من السلع والمستلزمات المنزلية. أما البنك المركزي الأوروبي فيركز على مؤشر الأسعار الاستهلاكية، وهو مقياس مماثل يتعقب تغيرات أسعار سلة "معينة" لمجموعة من السلع والخدمات الأساسية. على أن المشهد لا يتضح، دون التوقف عند تخلف هذين المعيارين عن هدفي البنكين المركزيين "الكبيرين" في الآونة الأخيرة. فما العمل؟ هل نحتاج إلى معايير أخرى لقياس التضخم؟ المعايير التي تستخدم لجمع وترتيب البيانات الحديثة - مثل المؤشرين المذكورين آنفا - هي مقاييس جيدة لمنح صناع السياسات فكرة عن مستوى التضخم الحالي، لكنها لا تقدم أفكارا ورؤى حول المستقبل. من أجل تلك الرؤى التي تعالج الآفاق في المستقبل، يلجأ المستثمرون وصناع السياسة إلى معدل عقود المقايضة الأوروبي 5y5y ومعدلات التضخم عند نقاط التعادل الأمريكية. معدل عقود المقايضة 5y5y مقياس سوقي يدل على توقعات بشأن مستويات تضخم قد تسود في غضون خمس سنوات. وهو يقدم نافذة نتعرف من خلالها على الكيفية التي يمكن أن تتغير بها توقعاتنا إزاء معدلات التضخم في المستقبل، ويقدم معلومات لصناع السياسات عما إذا كانت الأسواق مقتنعة بأن لدى البنك المركزي الأدوات اللازمة للحفاظ على معدل التضخم المتوقع، ضمن الهدف المحدد من قبلها. أما مقياس نقاط التعادل الأمريكية لأجل عشر سنوات فهو معيار مختلف قليلا، إذ يقيس المستوى الذي يعتقد المستثمرون أن من شأن التضخم بلوغه في غضون عشر سنوات، بناء على مؤشرات الأوراق المالية الحكومية المحمية من التضخم. إذا عملت ظاهرة التضخم على خفض قيمة الاستثمار، كما تنص النظرية، عندها سيحتاج المستثمرون إلى أن يحصلوا على أموال أكثر الآن، لمواجهة هذا التراجع في الغد. هذا "التعويض التضخمي" هو من الناحية العملية، ما يمثله معدل نقاط التعادل. لماذا حازت تلك المقاييس على كثير من الاهتمام؟ لأنها انخفضت بشكل مفاجئ جدا، في الأساس. في وقت سابق من هذا الشهر، قال ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، إنه يأخذ هذا الانخفاض الحاد في مقايضات 5y5y "على محمل كبير من الجدية". انخفض المعدل من 1.6 في المائة في بداية العام إلى مستوى منخفض بلغت نسبته 1.22 في المائة خلال هذا الشهر. انخفض معدل نقاط التعادل الأمريكية لعشر سنوات هذا العام من 1.98 في المائة في نيسان (أبريل) الماضي، إلى مستوى منخفض بلغت نسبته 1.62 في المائة في حزيران (يونيو) الجاري. عندما عقد مجلس الاحتياطي الفيدرالي اجتماعه في أيار (مايو) الماضي، علق عدد من المشاركين بأنه إن لم ترتفع توقعات التضخم لمستوى أعلى قريبا، من الممكن أن يصل المعدل إلى مستوى أقل من النسبة المستهدفة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، عند 2 في المائة. قال جون هيل، خبير استراتيجي في مجال أسعار الفائدة لدى شركة "بي إم أو" لأسواق رأس المال: "إن لم تتراجع نقاط تعادل التضخم بنسبة 2 في المائة عن المستوى الحالي، سيتسبب هذا في الواقع بتحفيز التسهيل. توقعات التضخم مهمة بالنسبة إلى مستوى التضخم الحالي. أنت تحتسبها في الأسعار في الوقت الحاضر. على أن من المثير للقلق مدى الانخفاض الذي وصلت إليه تلك المستويات". هل من عيوب في معايير قياس توقعات التضخم؟ من المؤكد أن مسؤولي البنوك المركزية يفضلون التركيز على الظروف الحالية. بيد أن المعايير المستخدمة لقياس التضخم المتوقع هي مجرد تكهنات – وفي هذه الحالة، يختلف صناع السياسة مع ما تقوله لهم الأسواق، بالطبع، بين الفينة والأخرى. علاوة على ذلك، تتأرجح توقعات التضخم بشكل أكبر بكثير من المعايير الفعلية المستخدمة لقياس التضخم. ويبقى أن القوة الدافعة الرئيسة المستخدمة في الآونة الأخيرة لقياس توقعات التضخم، كامنة في آفاق الحرب التجارية الباردة الجارية بين الولايات المتحدة والصين، مع خشية المستثمرين أن يثبط تفاقمها معدلات نمو الاقتصاد العالمي. بعد أن أشار كل من البنك المركزي الأوروبي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي في وقت سابق من هذا الشهر، إلى أنهما قد يتبعان سياسة أكثر تيسيرا وأقل تشددا من أجل دعم الأسواق، قفزت توقعات التضخم إلى الأعلى. لقد ارتفع معدل عقود المقايضة الأوروبي لأجل خمسة أعوام 5y5y مرة أخرى ليصل إلى 1.30 في المائة، في الوقت الذي وصل فيه معدل نقاط التعادل الأمريكية لأجل عشر سنوات إلى 1.78 في المائة. المعياران قابلان للتأثر بالتقلبات في أسعار النفط، بالنظر إلى أن أسعار الخام هي أحد المدخلات الكبيرة في الطريقة التي يُحتسَب فيها كل مقياس. ارتفاع أسعار الطاقة يترافق بصورة طردية عادة مع ارتفاع توقعات التضخم، والعكس صحيح، أي تراجع التوقعات مع انخفاض الأسعار. قال سيثكار بنتر، كبير خبراء الاقتصاد لمنطقة الولايات المتحدة في بنك يو بي إس: "العلاقة بين نقاط التعادل والسعر الفوري للنفط مرتفعة جدا. ينبغي عليك سرد قصة معقدة جدا حول سبب وجوب تأثير مستوى السعر الحالي للنفط، على معدل نمو جميع الأسعار بعد عشر سنوات من الآن. إن هذا أمر غير منطقي. في المقابل، هذا يعني أنه ينبغي عليكم التقليل بشدة من استخدام معيار نقاط التعادل، بل إن من الأفضل عدم الانتباه إليه مطلقا
مشاركة :