**محمد إسماعيل زاهر كيف يكون شكل الواقع من خلال عين واحدة؟ وإلى أي مدى تتحول تلك العين إلى عدسة فوتوغرافية تلتقط الواقع المحيط بنا؟ وهل نستطيع الانسجام مع العالم ونحن لا نملك إلا حاسة واحدة يمكننا من خلالها فقط التعامل معه؟ تلك الأسئلة وغيرها يطرحها قارئ رواية «بذلة الغوص والفراشة» لجون دومينيك بوبي. تدور أحداث الرواية حول المؤلف نفسه الذي تعرض في أحد الأيام إلى نوبة قلبية حادة عطلت وظائفه جميعاً لمدة ستة أشهر؛ حيث ظل في الغرفة ال119 في المستشفى البحري بباريس، مشلولاً لا يسمع ولا يتكلم، وعينه اليمنى مغلقة، ملفوفاً بالأربطة من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، وكأنه يرتدي بذلة ضيقة، تلك التي يشير إليها العنوان، وبعد فترة من تلك الحالة بدأ يدرك العالم عبر عينه اليسرى، فآن للروح أن تتسكع مثل فراشة.لا توجد في الرواية تفاصيل، هو سرد متقشف، لا توجد مراجعات للذاكرة، ولكنه بحث في إمكاناتنا المهدرة، لا توجد أسباب واضحة لإصابة بوبي بنوبة بهذه الخطورة، كان في طريقه لاصطحاب ابنه للمسرح، وهو يفكر في عشيقته، ثم فجأة اختلف شكل العالم، وسقط على الأرض ونقل إلى المستشفى، حالة تحدث عشرات المرات يومياً، وبعد عدة شهور وهو في ثقل بذلة الغوص المسجون فيها، يتفاعل مع ممرضته، يخبرها عبر حركة رمش العين اليسرى أنه يود الكتابة، تمرر أمامه حروف الأبجدية، يختار الحرف الذي يريده بتحريك رمشه مرتين، ومن ثم يغزل الكلمات، وترتص الجمل، لتنتج في النهاية تلك الرواية التي تقع في نحو 115 صفحة من القطع المتوسط.هي كتابة أشبه بالحياكة، وذكريات أشبه بالخيوط الواهية، لا تتسم بالثقل، ولا تسعى إلى قول فكرة كبرى، هو مجرد تجول للروح بين زوايا وأركان المستشفى، يتأمل وجوه المرضى، بعضهم مثل الزومبي، يدقق في التماثيل الموضوعة بين الردهات، يستحضر الإمبراطورة أوجيني من خلال تمثالها، أو يتذكر الكونت دي مونت كريستو، أو تمر بطيفه ليلة قضاها مع محبوبته جوزفين في شبابه المبكر، تعبر في أفقه شوارع باريس.. ميادينها وحوانيتها ومقاهيها وسياراتها.. إلخ، يا ترى ما هو شكل هذه الشوارع الآن، هي نفسها، لعل الفارق الوحيد كما يقول «أنا كنت خارجاً»، هي حميمية العلاقة مع المكان الذي تعودنا عليه، المكان الذي عشنا فيه، وعشش في قلوبنا، نحن إليه في لحظات البعد أو المرض أو العجز، ولكن المكان باقٍ.. الفارق أننا لا نوجد فيه. ألم يسأل أحدنا نفسه يوماً ما: يا ترى ما شكل العالم بعد رحيلنا؟العين اليسرى في السرد بمنزلة النافذة على العالم: «الشباك الوحيد لزنزانتي»، شرفة الذات على الخارج، سينما الروح؛ حيث يصنع بوبي أفلامه الخيالية، وهو داخل بذلته الضيقة؛ حيث ينقسم العالم بين المعرفة واللامعرفة: «بات عالمي مقسوماً»، بين ما مر به سابقاً، وما يدور أمامه الآن.في مرضه وعجزه عن الحركة يفكر في لحظات السعادة التي لم يستثمرها: «اليوم يبدو لي أن وجودي برمته لم يكن إلا تشكيلاً لقائمة المهدرات»، حياتنا «سباق نعرف نتيجته مسبقاً، ولكننا نعجز عن لمس الفائز فيه».بوبي لا يستبطن مشاعره، لا يتفلسف حول حالته، أو يدركها بوصفها أزمة وجودية، نعرف من السرد أنه رئيس تحرير مجلة نسائية شهيرة، يعشق الموسيقى والقراءة، صاحب مغامرات نسائية، هو باختصار رجل محب للحياة ومقبل عليها، يحدثك أحياناً عن أحلامه في متحف الشمع، يكلمك في أحيان أخرى عن ذكرياته الذي يرغب في طهيها، ليخرج بشيء جديد، وفي بعض الأجزاء يأخذ حواسك جميعاً وهو يفكر في اللمس والشم والتذوق، لينقل إليك شعوره بما يشتاق إليه وما هو محروم منه؛ بسبب حالته، هو رجل منخرط في الحياة حتى أذنيه، وعندما يفكر في ذلك يفجر حالة من التعارض بين الحلم بالقدرة على الفعل والعجز عن القيام بأي شيء.السرد يلعب على فكرة الثنائية، بين ماضي بوبي، وحاضره، بين رؤيته لحالته داخل أربطته، ورؤيته لجسده عندما كان يتمتع بكامل صحته، مراوحة دائمة، بين عالم نبصره بعينين تتسعان لكل شيء، وعالم ثانٍ ندركه من خلال عين واحدة، بين واقع سابق استمتعنا فيه بحياتنا، وقدر غادر قذف بنا في أزمة نعاني تجلياتها بمفردنا ولا أحد حولنا، وعلى الرغم من حديث بوبي عن والده وولده وابنته، وأصدقائه، وزوجته، إلا أننا طوال السرد لا نسمع إلا صوت بوبي، ولا نرى العالم إلا من خلال عينه الواحدة.من هذه التناقضات التي يدركها بوبي بعين واحدة، ينبع الأسى في الرواية، ولكنه أسى شفيف، عابر، يلمسنا برفق، أسى لا يصل إلى درجة البكاء، ولا ننخرط معه في حزن يجسم على أحاسيسنا ونحن نقرأ، فالسرد وعلى الرغم من أنه يدور حول ثيمة المرض، فإن صاحبه يود بكل إرادته أن يشفى، أن يتحرر من المرض، ألا يمنحه فرصة أن يأخذه إلى النهاية، والزمن في السرد ثابت، والمكان أيضاً، فالمستشفى بمنزلة الأفق الأوسع الذي يضم مدارات أصغر تتضاءل حتى بذلة الغوص ونافذة العين، ومن خلال تلك النافذة، أو الشرفة أو الفراشة المتسكعة هناك: بوبي وذكرياته، بوبي وإمكاناته المهدرة، بوبي والآخرين...إلخ.السرد في «بذلة الغوص والفراشة»، يتأسس على التقابل بين عالمين، الأول نراه نحن القرّاء بعينين، تحيطان ببوبي من الجوانب كافة، ترقبانه، تخترقانه، تتبعانه في تصرفاته، وهمساته، وتتلصصان عليه في سكناته، تسعى عينا القارئ إلى معرفة التحول الذي سينتهي إليه بوبي؛ ولكنه تحول لن يحدث، هنا تصاب العينان بالخيبة، والعالم الثاني نبصره بعين واحدة هي عين الراوي، عين تشاهد الخارج وتبصر الداخل، في الوقت نفسه. عين تنفذ بسلاسة وبساطة إلى لا مرئي الباطن وتنفتح على خزان الذاكرة، في فلاشات سريعة تلتقط صور الواقع الهش من حولها، لتذكرنا بحياتنا المملوءة بعشرات من الفرص المهدرة، والتي تحتاج إلى وقفة نتأمل فيها العالم من خلال عين واحدة، فنافذة ضيقة تكفينا؛ لكي تتسع الرؤية.
مشاركة :