الناخبون .. قوى سياسية أم بيادق على رقعة شطرنج؟

  • 7/2/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تزعزعت أركان الأحزاب السياسية التي كانت ذات يوم تهيمن على الديمقراطيات الغربية، وكثير منها منيت بهزائم انتخابية ثقيلة، خاصة في فرنسا وإيطاليا واليونان والمملكة المتحدة وأماكن أخرى. وتغيرت أخرى بشكل جذري، حتى لم يبق منها على حاله سوى اسمها. فلن تجد سوى قلة من القواسم المشتركة بين الحزب الجمهوري تحت قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والحزب الجمهوري تحت قيادة الرئيس السابق رونالد ريجان. تتشابه هذه التطورات عبر الغرب، بحسب التقرير المشترك الذي أعده الباحثان ديفيد امايل وإسماعيل اميلن مستشارا الرئيس الفرنسي ماكرون. ويتأرجح زعماء الأحزاب التي كانت مهيمنة ذات يوم بين الإنكار واليأس، في حين يختلس الشعبويون أنصارهم التقليديين. يرفض بعض هؤلاء القادة الاعتراف بوجود أي سبب مشروع لهزيمتهم، ويعدون أنصار خصومهم "بائسين"، كما فعلت هيلاري كلينتون قبل فترة وجيزة من خسارتها لمصلحة ترمب في عام 2016؛ ويشعر بعضهم بقدر مفرط من الرهبة إزاء صعود الشعبوية يجعلهم عاجزين حتى عن شن أي هجوم مضاد. لكن لا الإنكار ولا الشعور بالرضا عن الذات قد يكسر الجمود السياسي. بل يتعين على التقدميين أن يعكفوا على إعادة البناء، ويبدأ هذا بتشخيص أوجه القصور التي تعيب الأحزاب التقليدية. يرجع جزء من المشكلة إلى فشل الأحزاب التقليدية في إدراك قضايا العصر الحقيقية. ومع استمرار هذه الأحزاب في القتال في ساحات المعارك الإيديولوجية القديمة، فإنها غضت الطرف عن تراجع الحراك الاجتماعي، وتصاعد الأزمات البيئية، واتساع فجوة التفاوت الجغرافي، والتوترات حول التعددية الثقافية، وغير ذلك من القضايا التي تهم الناخبين حقا. قبل عقود من الزمن، كانت هذه الأحزاب في الطليعة. واليوم أصبحت منبوذة في العراء، تتساءل أين ذهب الجميع؟ ربما تحمل العلوم الاجتماعية الإجابة عن التساؤل حول السبب الذي جعل التيار الرئيس يضل الطريق. الواقع أن الفجوة بين تحليلهم الموضوعي للواقع وسياسات الحكومة تحولت إلى هوة. ففي أغلب الدول الغربية، على سبيل المثال، كان أهل الاقتصاد على علم منذ فترة طويلة بفجوات التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخول وغير ذلك من المؤشرات بين بعض المدن الثرية - التي تستفيد من العولمة - وبقية البلاد. مع ذلك، لم يُقْدِم أي قائد وطني على استنان تخفيضات ضريبية على أساس محل إقامة المرء إلا بعد وصول إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى السلطة. ونتيجة لهذا، يُعاد الآن توزيع 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي على المناطق الأكثر فقرا في البلاد أولا. ربما يمكن للأحزاب التقليدية أن تتعلم أيضا شيئا من الإنصات إلى الناخبين بشكل مباشر، وليس فقط من خلال مرشحات وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي. في عام 2016، بدأت حركة "إلى الأمام!" التي أطلقها ماكرون بأكبر جولة استماع من باب إلى باب في تاريخ فرنسا. وقد أصبح ما قاله الناخبون للمستطلعين، الأساس الذي قامت عليه حملة ماكرون الرئاسية. على سبيل المثال، قبل أكثر من عام من الكشف عن مغامرات هارفي وينشتاين الجنسية المزعومة، قامت La Grande Marche بجمع شهادات لا حصر لها من نساء حول التحرش، وأصدر ماكرون تعهدا بمحاربة المشكلة إذا انتخب. في ذلك الوقت، تسبب موقف ماكرون في تحويله إلى هدف لنكات المعارضين الساخرة؛ لكن سرعان ما تلاشت الضحكات مع بداية عصر #MeToo. مع ذلك، لا يُعَد الفهم الدقيق للمجتمعات كافيا. ذلك أن الأحزاب التقليدية تعاني أيضا سوء التنظيم. وكانت لفترة طويلة تعتقد أن السياسة الحديثة لا بد أن يجري تنظيمها حول الانتخابات، حيث يظهر الناشطون دوريا لتوزيع المنشورات والهتاف للمرشحين. لم يكن هذا ساخرا بقدر ما كان عَرَضَا لنهج يتعامل مع الديمقراطية على أنها سوق تضم مقدمي الخدمات الحكومية والمستهلكين من المواطنين. من هذا المنظور، يُعَد الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها، السبب الوحيد لوجود أي حزب. وليس من المستغرب أن يشعر المواطنون، حتى أعضاء الحزب، بأنهم موضع تجاهل بين الانتخابات. على الرغم من نقاط الضعف هذه، كانت الأحزاب الراسخة تتمتع بعدد من المزايا التي منعت انهيارها. ففي السنوات الأخيرة، كانت لديها ميزة تكنولوجية تجعلها متفوقة على المعارضين الأقل رسوخا، وكانت تمثل القوى السياسية الوحيدة التي تساندها دوائر انتخابية منظمة يمكنها تعبئة الناس للانتخابات، وتنظيم الاحتجاجات، وبدء الالتماسات. بيد أن هذا النموذج لم يعد مستداما. ففي أيامنا هذه، يرفض المواطنون أن يكونوا مجرد مستهلكين للسياسات العامة. ومع ارتفاع مستويات التعليم أتت مطالبات جديدة بالتمكين. إذ يريد الناخبون أن يُعاملوا قوى سياسية وليس بيادق على رقعة شطرنج. علاوة على ذلك، لم تعد الحكومات ذاتها المزود الوحيد للسياسات. وهذا أحد الدروس الصعبة التي تعلمناها خلال عامين من العمل إلى جانب ماكرون في قصر الإليزيه. والواقع أن تحديات السياسة الرئيسة اليوم - تغير المناخ، والتطرف الديني، والارتباك الرقمي، والمساواة بين الجنسين - لا تعترف بالحلول التي تقدمها الحكومات الوطنية فقط. بل يتطلب التصدي لهذه التحديات إجراء تغييرات ثقافية عميقة، وفي أغلب الحالات، التحرك على المستويين دون الوطني وفوق الوطني. أخيرا، عملت التكنولوجيا على خفض الحواجز التي تحول دون المشاركة السياسية، حتى إن الأحزاب التقليدية لم يعد بوسعها أن تعتمد على ميزة وجودها في السلطة وشبكات الدعم الراسخة. عندما تتقن التعامل مع "جوجل"، و"تويتر"، و"فيسبوك"، فإنك لن تحتاج إلى آلية حزبية عمرها قرن من الزمن. من الأهمية بمكان إعادة بناء الحركات السياسية وفقا لذلك. ويجب أن يكون التركيز على تدابير محددة، وليس الانتخابات فحسب. فلا بد أن يخدم الهيكل الإداري الرسمي لأي حزب كمكتب خلفي إداري؛ ويجب أن يُدار المكتب الأمامي بواسطة الناس على الأرض. في حزب الجمهورية إلى الأمام! نشير إلى هذه التدابير على أنها مشاريع للمواطنين المحليين. ومن الممكن أن تضم أي شيء من دورات القراءة بعد اليوم المدرسي وبرامج دمج المهاجرين إلى حدائق الخضراوات التعاونية وجلسات التدريب الرقمي للمواطنين من كبار السن. وفي كل حالة، يتمثل الهدف في تقديم حلول مصممة خصيصا لعلاج مشاكل محلية، وبالتالي تعزيز المجتمعات. ولا بد أن ننظر الآن إلى مثل هذه المشاريع باعتبارها مكملات أساسية للسياسة العامة. في المستقبل، ستشكل قدرة أي حزب على تقديم سبل مجزية للمشاركة السياسية والمجتمعية ضرورة أساسية لتحديد مدى جاذبيته. ومن خلال إظهار النزعة التقدمية في العمل على أساس يومي، ترسي الأحزاب بالفعل الأساس للنجاح عندما يُقبِل يوم الانتخابات. عندما يرفض الناخبون الاستماع إلى ما لديك من كلام، فإن الصراخ بصوت أعلى ليس هو الحل. هذا هو الدرس الصعب الذي تعلمته الأحزاب التقليدية. فمن خلال إظهار الالتزام بتحسين حياة الناس، وليس بالفوز بالانتخابات فحسب، يصبح بوسعك إقناع الناس بالوقوف في صفك. وعلى هذا، فإن العودة إلى التواصل مع هموم الناخبين وشواغلهم لا تفترق عن تكييف المنظمات الحزبية. وللتوصل إلى بديل ناجح للشعبوية، نحتاج إلى تقدمية القاعدة الشعبية.

مشاركة :