شعرية الثورة تنبثق للمرة الأولى، بهذا التشكل الجنيني، تنبثق من ولادة طيعة، ومن حمل لم يكن سفاحا، وسؤال الشاعر الشاب محمد رياض في ديوانه «الخروج في النهار» ليس كاشفا للأقنعة فحسب، بل هو مرتديها وصانعها أيضا. الكشف هنا وثيق الصلة بالتأكيد على أن اللغة الشعرية، عكس ما جرت به اختيارات قصيدة النثر، لغة متنبئة ومركبة ومهجوسة بالسؤال، اللغة إذن ماهية يحدد سرها الشاعر الذي يستنطق كائناته من خلال: الموتى، الحرب، المدرعات، الحبيبات، السكارى، النخبة الفاسدة، والثوار أيضا. الشاعر هنا يضع تصورات ومقترحات شاردة لمجازات لم تكن في الإمكان إلا عندما رأيناها تتجسد أمامنا، وهي تؤدي وظائفها الجمالية على نحو جدير بالانتباه. في هذه اللحظة يؤكد محمد رياض أنه الابن العاق، الذي اختار، رغم مناخات العنف والقتل، أن يستند إلى نبوءة المستقبل، وهو ينقل في افتتاحه للديوان عن كتاب الموتى قوله: «أنا لست كالنهار، أنا أكثر إشراقا من كل شيء»، ثم يتبع أمثولته بعنوان فرعي يستغرق أكثر من ثلثي الديوان هو «الشاعر ينتصر»، وفي الفضاء التالي مباشرة لصفحة بيضاء أخرى ينقل عن جيفارا، بحمولته التاريخية كرمز من رموز الحرية، قوله: «دعني أقل لك، مخاطرا بأن أقع في السخافة، إن الثوري الحقيقي تقوده مشاعر عميقة من الحب»، وبطبيعة الحال لم تكن كل هذه الإشارات التي يصحبها معه الشاعر سوى توطئة لتجربة فريدة في حقل قصيدة النثر، وفي حقل الشعر الثوري إذا صح هذا التعبير. فهل ما قدمته الثورة حتى الآن للشعر قليل؟ الشعراء يتحدثون عن أن الثورة كان عليها أن تقدم للشاعر ما يقوله عنها، في حين كان يجب على الشاعر ألا يتحول إلى عبء عليها، فيستدين منها رصيد رؤيته. هذا الاعتقاد في حد ذاته جريمة أنتجت شعرا لقيطا أو كلاسيكيا في أحسن الأحوال. وهنا يجب أن نتوقف بمزيد من التقدير أمام تجربة محمد رياض مقارنة بتلك الأشكال البالية للتعبير عن حدث لا تزال تفاعلاته حية ومتجددة. لذلك، فأنا أغبط الشاعر على وعيه الجمالي الذي لم ينس لحظة فرائضه التي كان عليها أن تسبق فرائض الثورة. الشاعر لا يخترع نظرية، فالآراء والنظريات لا تصنع الشاعر، والإبداع عادة يقلص من سطوة النظرية، لكن المؤكد أنه يبجل الوعي المقابل لسطوة السؤال الوجودي، ويبجل الجهد البشري المبذول في فك طلاسمه، فهو يرى، بتركيبيته الكائنة، أن الشاعر الذي لا يمتلك مثل هذا الوعي، يقوم في المقابل بتثبيت المشهد وتثبيت السائد، في الوقت الذي لا يبدو فيه دوره إلا مخترقا لهذا الثبات، أو هكذا يجب أن يكون. ليست لغة الفائض الشعري هي فقط ما يميز ديوان «الخروج في النهار»، فثمة انشغالات أكيدة بالذات، حيث تتمركز القصيدة، ومن ثم يتمركز العالم، يضيق فضاؤه وتتسع لغته، وقد تجسد ذلك في استخدام ضمير الأنا على طول الديوان: «أنا قادم إليكم، أنا المستقبل، أنا العدم، أنا مؤمن بالموت، لي رأس مهيض، إنني مدمن للعزلة، مولع بالخمر، لست آخر الموتى، أنا لا أعرف سوى أبجدية واحدة، أنا الصامت أبدا، أنا سيد اللحظة الفارقة»، وهكذا تتشكل مركزية الذات الشاعرة، ويكون من أثر ذلك أن أنتجت قصيدة النثر غنائية غريبة عليها، لكنها ليست غريبة علينا، فقد شهدنا الوعي نفسه في نماذج مبكرة لقصيدة النثر تأثرت قولا ووعيا بماضيها الشعري وجمالياته المستقرة، وكنت آمل من محمد رياض أن ينظر بعين أكثر رحابة لتلك الجماليات، وأن يكون بعيدا عن الاجترار، ففوائض اللغة غناء مبطن، وضمير الأنا غناء مبطن، والروح الاستشهادية بطبيعتها صانعة لبنى قديمة تفتقدها قصيدة النثر، بعد أن نكلت بروادها وأعلنت أنها ستكون عنوانا للتهكم من كل شيء، بما في ذلك الموت نفسه. لكن ليس هذا كل ما في جعبة شاعرنا محمد رياض. فملحمته القصيرة الدافئة والدافقة، التي لا نملك إلا حبها والتعاطف معها، تعمل تحت وطأة وعي مضاف لقصيدة النثر استدعى أن نقول، بضمير مستريح، إن الديوان الذي بين أيدينا، وإن رافق جماليات بعضها قديم، فإنه استطاع أن يضع هذه الجماليات في مجمرة اللحظة الحاضرة، لذلك تعززت قدرات النص على التشوف وقراءة المستقبل، يقول: «الثوار باسمون، ذقونهم نابتة كأشواك القنافذ، جذابون وعاطفيون ومتفائلون حقيقيون بصورة غريبة حتى على الخيال، مستعدون للقتال من أجل حفلة أو مباراة. برهافة وعنف يسوقون متع الحياة العظمى إلى غرفهم البائسة، ويستقبلون الرصاص بالوسامة التي يلطخها العناد». إن الإيعاز هنا بأن الشاعر أكبر من لغته تعريض وسخرية من النقد حسن النية الذي بدا ممثلا لضرب من ضروب المعرفة الضالة وغير المؤطرة، بينما الأمر فيما يبدو أوسع قليلا من هذا النظر الذي يربط ربطا أوليا بين اللغة ومترادفاتها؛ فلغة الشعر موجة طائشة وسرمدية، ومن يتأمل قصيدة الديوان الفاتنة «الخروج في النهار» سيتأكد أنه تزوج تسع صفحات من اللغة الفردوسية هي عدد صفحات القصيدة؛ غير أن ذلك لا يعني أن الشاعر يهزل بالأسئلة الجارحة في قصيدته؛ تلك التي حفرتها الحروب، وحفرها الفلاسفة، والقاطرات، والكهرباء، والفحم، والمباخر، وجلسات الزار، وتحضير الأرواح، ومدونات القوانين، واكتشاف النواة والإلكترون؛ ووسط هذه التناقضات تقع اللغة الشعرية لمحمد رياض. إن خروج الشاعر من رحم إيزيس بقوة الحياة، كما يقول في قصيدته «الخروج في النهار»، لا يعني أنه الجسد المستعاد من إله الشر ست، لأنه يدرك جيدا أنه ولد من رحم من تقول عن نفسها: «أنا أم الطبيعة كلها، وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله، والربة العليا».. وليس غريبا أن يتبدى الشاعر هنا وكأنه أوزوريس المغدور؛ باعتباره شاعر القوة الغامضة على مر التاريخ. وتبدو حقول التأويلات والتداخلات في النص أعلى بكثير من القدرة على تواضعه واقترابه، وبالقدر نفسه يتحقق حضوره وانسكابه في كثير من المسارب. وهو ما يجدد سؤال المعرفة الشعرية مرة أخرى، وهو سؤال حتى لو لم ينتبه له الشاعر، فإنه يتحدد عبر مستويين من الوعي: أولهما يتحقق خارج ما هو شعري ويتأثر بشكل أكثر جلاء في الموقف من العالم وجودا وعدما، ويتجلى ذلك في الموقف من قضية الإنسان في مواجهة سؤال الطبيعة الأوسع والأكثر سطوة. وثانيهما يتحقق في سياق ما هو شعري وتتحدد تجلياته محكومة بتقنيات النوع وجمالياته التي يبدو أنها اختارت المزاوجة بين قديم الشعر وجديده، دون أن يعني ذلك حكما قيميا على هذا النص؛ الذي بلا شك يستحق كثيرا من التحية، ويثير كثيرا من البهجة.
مشاركة :