يبدو أن مبدأ "النأي بالنفس" اختلط على سياسيي لبنان، فبدل النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، نأوا بأنفسهم عن مصلحة المواطن اللبناني. الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أطلّ بوقت ليس بالبعيد مفاخراً ومتحدياً مؤسسات لبنان ودولته "أكلنا وشربنا ورواتبنا وصواريخنا وسلاحنا من إيران". هو السلاح نفسه الذي يموت به أبرياء لبنانيون بـ"رصاص طائش" عندما يلقي نصرالله كلمة له، أو بـ"رصاص موجّه"عندما يقرّر "القبضايات" الاحتكام إلى قانون الغاب داخل دويلة الحزب أو خارجها. هي الصواريخ نفسها التي تضبط توقيت إطلاقها إيران وتوجّهها.. وليس على حزب الله إلا الضغط على زر التشغيل وجرّ البلاد إلى حرب كان آخرها عام 2006 دمّرت لبنان وبنيته التحتية قبل أن تعيد دول الخليج وعلى رأسها السعودية إعمارهما. في الموازاة، تتمسّك السعودية ودول الخليج (نفسها التي يهاجمها نصرالله في كل خطاب له) بدعم مؤسسات لبنان الرسمي وجيشه كـ"قوة شرعية وحيدة"، وتربط الرياض إتمام الدعم المُقرّ بمبلغ 3 مليارات دولار للجيش اللبناني وهبة بمليار دولار شرط وضع آلية واضحة تكفل عدم وصول تلك الأسلحة إلى ميليشيات حزب الله والالتزام بها. السعودية تجدد التأكيد على دعمها للمؤسسة الرسمية وركن الأساس في الدولة اللبنانية، وتثبّت قدميها مجددا في دعم مفهوم "الدولة".. مقابل إيران التي نخرت أركان الدولة تباعاً عبر حزب الله كلما حاول لبنان النهوض بها. السيناريو اللبناني غالباً ما كانت قراءته تمثّل الرؤية الخارجية للقوى الإقليمية، وذلك لطبيعة لبنان المذهبية والحزبية، لموقعه الجغرافي، وخصوبة "أرضه" لاستقطاب الأزمات، فيما موقعه الجيو- اجتماعي والجيو- سياسي يظهران سببية تصادم وتكسّر الأمواج الغربية والشرقية فيه. منذ عام 2005 يتخبّط لبنان بين مشروعين اثنين: مشروع المستقبل ومشروع العصور القاتمة. مشروع "الدولة" ومشروع "الدويلة". لا يخفى على أحد المشهد اللبناني بصورة شاملة. طرف يدعو إلى دولة قادرة تحتكر السلاح والقوة على كل أراضيها بحدودٍ مُرسّمة وشعبٍ انتماؤه وطني لا مذهبي أو طائفي أو عرقي. طرف آخر انتماؤه خارجي سياسياً وعسكرياً. وبين مزدوجين وقبل استكمال المقال يجدر التذكير بماهية الدولة وأهدافها وأركانها. (فإن الدولة بإنشائها هدفت الى وضع ضوابط بين أفراد قرروا التخلي عن بعض حقوقهم الشخصية لمصلحة الحق العام، والتخلي عن بعض ٍمن مصلحتهم الفردية لصالح المصلحة العامة، على أن تؤمن الدولة في المقابل أمنهم الاجتماعي والشخصي وتضع أفرادها على قدم مساواة أمام القانون الوضعي. أمّا متى دخل ثالث بين الموقّعين على هذا العقد اختلط الحابل بالنابل وفُقدت الثقة وساد قانون الغاب مجددا، وحكم القوي). في المقابل، وبالبحث في معاجم اللغة العربية، لا تعريف دقيقاً لمفردة "دويلة" إلا بمعنى دولة صغيرة. بالتالي فإنّه تعبير سياسي مستحدث للإشارة إلى الدولة داخل الدولة. عدم وروده في المعاجم اللغوية أو السياسية لهو دحض له ويثبّت أنه مفهوم غير طبيعي يتعارض مع ما يُتعارف عليه في مفهوم "الدولة". الدويلة إذن هي سلطة مستقلة عن سلطة الدولة. المنتفعون منها هم فصيل أعطى لنفسه "سيادة" ومنافع ضمن حدود معيّنة. قد يمتلك السلاح ومؤسسات خاصة بطابع عام تعمل داخل هذه الدويلة أو تغذيها من الخارج. ما يحدث في داخل الدويلة يبقى في داخلها. المسألة حسابية وبسيطة وتتبع حبل المنطق العلمي: إيران تدعم الدويلات على حساب الدول من منظورها الأحادي لـ"أمبراطوريتها" التي تمر بالعراق وسوريا ولبنان إلى فلسطين المحتلّة وصولاً إلى اليمن. تقدّم الدعم المالي والعسكري لميليشيات يكفي وجودها في المعادلة لضرب مفهوم الدولة. فبين حزب الله وحماس وفتح الإسلام والجهاد الإسلامي ودعم نظام الأسد (للإبقاء على الجسر البري - العسكري) وصولا إلى الحوثيين في اليمن، يبدو الرابط الأوحد بين الميليشيات تلك هو المسعى لبناء دويلات تنسف مفهوم الدولة وتقدّم الطاعة لليد الإيرانية التي تطعمها. التقاؤها في المعادلة الحسابية المذكورة يعزّز النظرية القائلة إن نظاماً في سوريا اليوم بالنسبة إلى إيران ليس سوى فرع بعنوان "دويلة الأسد" تماماً كـ"دويلة حماس" ودويلة "حزب الله" ودويلة "فتح الإسلام" في نهر البارد سابقاً ودويلة الحوثيين في صنعاء اليوم. على الضفة الأخرى، مشروع معتدلٌ، داعمٌ لـ"الدولة"، أكيدٌ من أنّ الخلاص لا يأتي إلا من باب الشرعية والمؤسسات الرسمية والقانون. مشروع يرى أن الدولة وحدها هي ضابطة الإيقاع في منطقة إن لم تضرب الدولة فيها بيد من حديد، يتحوّل المشهد فيها إلى ما يبدو عليه اليوم. فغياب الدولة القادرة والجامعة في عدد من بقع المنطقة الجغرافية تحوّل إلى مغناطيس للمناهج المتطرفة في وجه مشاريع "دويلات إيران" المبنية على أسس طائفية ومذهبية. في وجه تهديد الدويلات القائمة تلك، استشعرت شريحة كبيرة بتهديد وجودي ليتم توظيف هذا التهديد في مصلحة مشروع متطرّف "إرهابي" لم ينتهِ. وبين المشروعين، تبقى الدولة الضامن الوحيد لإعادة ضبط الإيقاع ونبذ التطرف وضرب برنامج "الدويلات"... والإرهاب في آن. قناعة جديدة مفادها أن انفجار المنطقة ودخول إيران على الخط ـ في فترة ما بعد الثورة ـ بمنهج سياسي- ديني- متطرّف أفضى إلى ضرب "الدولة" وثقة الأفراد فيها، ليستفيد "تجار الدين" من هذه الثغرة ويزيدونها اتساعاً ويوظفونها في مشروع متطرّف لمواجهة التطرف المضاد. سنوات مرّت وازداد المشروعان بُطشاً.. وبات المشهد على ما هو عليه اليوم. يتخبّط لبنان بين الدولة و"الدويلة"، أما النأي بالنفس عن صراعات المنطقة لا يعني مواساة الجلاد والمجلود. لا يعني القبول بدويلة على حساب الدولة في لبنان. النأي بالنفس هو بعدم المشاركة بالصراع لا بالسكوت عن الجريمة التي ترتكبها إيران بحق لبنان عبر دويلتها. صالح لبنان وقيام دولته يتعارض مع مشروع إيران وبالتالي مواجهته لا تتضارب مع سياسة بالنأي بالنفس وإلا أصبحت نأياً بالنفس عن السيادة ومصلحة المواطن اللبناني، وهو ما لا يكفله الدستور.
مشاركة :