تُتيح المراسلات الخاصة، الجدِّية، فرصةً فريدة للتعامل مع مواضيع البحث بدرجةٍ أكبر من التركيز والدقة. هذا فضلاً عن الشفافية والصراحة التي تُوفِّرُها خصوصية الحوار. لكن ثمة أفكاراً يؤمن بها الكاتب، لابدَّ أن يُشارك بها قُرّاءهُ بشكلٍ مُعلَن، ليكون صادقاً مع نفسه ومعهم، خاصةً وأن مناسبة الحوار الخاص فتحت نافذةً لخروج تلك الأفكار من الذهن والتعبير عنها كتابياً. من هنا، نُكمل الرسالة الأولى التي رددتُ بها على القارئ المجهول، الذي باتَ صديقاً بعد الحوار، وكان مما ذكرتهُ فيها: «لا أريد الإطالة عليك، لكن من أكثر الكتب منهجيةً، والتي ساعدتني في فهم المشكلة [التي تشكّلَت تاريخياً فيما يتعلق بفهم الإسلام وتنزيله على الواقع] والبحث عن ملامح حلِّها، وأنا لا أزال، بكل صراحة، في هذه المرحلة أقول، من أكثر الكتب منهجيةً كتابا عبد الجواد ياسين: (الدين والتدين) و(السلطة في الإسلام).. خاصةً الأول الذي أحمله معي في حِلِّي وترحالي وأقرأ فيه المرة تلو الأخرى.. ثم هناك كتاب (أساطير الآخِرين) لياسين الحاج صالح، الذي يُشرِّحُ فيه المشكلة أيضاً ويسألُ أسئلةً منهجيةً من خارج (البارادايغم / الإطار المعرفي) الإسلامي، المُتحكِّم حتى بعقول كثيرين من الذين يقولون إنهم يفكرون ويكتبون في مواضيع (التجديد والاجتهاد و..)، لأن مثل تلك الأسئلة الأساسية لا تخطر في بالِهِم أصلاً (ماداموا داخل البارادايغم الإسلامي). أنصحك، إذا لم تقرأ هذه الكتب أن تقرأها بشكلٍ عميقٍ ومتكرر، على سبيل (التفكيك) والحفر العميق جداً في المشكلة التي يجب أن نفهم أسبابها وطبيعتها وأبعادَها قبل أن نفكر بمجرد إمكانية (التركيب) من جديد..... لكن هذا كلَّهُ في كفة، بالنسبة لي، والعلاقة الخاصة جداً مع الودود الرحيم، الذي (أسلَمَهُ) المسلمون (بمعنى احتكروه) كما يقول ياسين، في كفةٍ أخرى. وأرجو أن يكون هذا الفصل بين الأمرين ممكناً بالنسبة إليك. أرجو من قلبي أن تجده تعالى بكل صفاته الجميلة بطريقتك الخاصة.. فهو موجودٌ يا (فلان).. وقد وجدتُهُ... وأعيشُ معهُ وبهِ ولهُ، رغم كل الكلام أعلاه، بسلمٍ وأمنٍ وطمأنينةٍ وانشراح صدرٍ، لا أعتقد أن كثيراً من (المتدينين) ذاقوا شيئاً منها.. أنا في مرحلة: ديني لنفسي ودينُ الناسِ للناسِ.. لكنني لستُ (درويشاً) صوفياً.. مع محبتي للعقلاء منهم. لأنني أعتقد أنهم وجدوا أيضاً جزءاً فقط من الحقيقة الكبيرة الجميلة.. وأرجو أن نبقى على تواصل». انقطع الرجل عني فترةً من الزمن.. لكن رسالته التالية كانت تحمل ما يمكن أن يوصف بـ (المفاجأة). وقد قال فيها بالحرف: «أعتقد أنك وعبد الجواد ياسين قد أعدتموني لديني! الكتابُ ليس سهل القراءة، وليس كتاباً خفيفاً يُقرأ على صوت فيروز. بل هو كتابٌ غني يحتاج دراسةً وليس قراءةً. مازلتُ في الصفحة ٥٠ لأنني أعيد قراءة كل صفحة، وفي كثير من الأحيان أعود لقراءة فكرةٍ ما قبل عشر صفحات. الكتاب (ومع أنني مازلت ببدايته) أعطاني شعور الوقوف على أرضٍ صلبة مرةً أخرى. إحساسٌ فقدتُهُ منذ سنين! الشحرور وغيره لمّحوا كثيراً لفكرة تأثير المجتمع على شكل الدين، ولكن لم يُوفَّق أحدٌ بفصلِ الدين عن التديُّن وتعرية التديُّن الحالي، وكَمْ غيَّر شكل الدين وسبَّبَ اختلاط المفهومين عند الناس». كانت المفارقة كبيرةً، وجميلةً إلى حدٍ ما. فرغم أنني أكّدتُ له، كما وردَ في الجزء السابق من المقال، مايلي: «... ويُهمُّني جداً أن أؤكد لك، الآن وإذا استمررنا في التواصل، وأرجو ذلك، أنني لا ولن أهدف إلى إقناعك بـ(العودة إلى الإيمان) بالطريقة التقليدية السائدة». إلا أن إجابة الرجل أوحَت بصوابية اعتماد منهج الحرية في الاختيار، والاقتصار على فتح الأبواب والنوافذ، وتوسيع آفاق البحث والنظر، لمن يُفكر، جدّياً، باحثاً عن الحقيقة. الأمرُ الذي سيساعد على التقدم خطوات على ذلك الطريق، في أقل الأحوال. وفي هذا، بحدِّ ذاته، لذةٌ روحية وفكرية، وعملية، لايعرفُها إلا من ذاقها.. تصوّر فقط، قارئي الكريم، أنك «امتلكت شعور الوقوف على أرضٍ صلبة» في هذه الحياة، وكيف يمكن أن يكون هذا الشعور بداية مرحلةٍ جديدة مختلفة في حياتك! ونكمل المراسلة والحوار عنها في الجزء القادم الأخير من هذا المقال.
مشاركة :