ومن القصص التي تكشف استخفاف حسن التهامي بعقول الآخرين ما ذكره عبد الفتاح أبو الفضل في مذكراته، عندما كان في زيارة لمنزل التهامي للحصول منه على بعض دراسات وقرارات المؤتمر الإسلامي، حيث كان يشغل مركز سكرتير عام المؤتمر الإسلامي. وفي هذه المقابلة قص التهامي على الرجل حقيقة صفقة الأسلحة التشيكية، وأن عبد الناصر قبل توقيع الصفقة المذكورة أرسل التهامي في مأمورية خاصة إلى الولايات المتحدة ليستطلع رد فعل رجال المخابرات الأمريكية حول تأثير هذه الصفقة على السياسة الأمريكية في حال إتمامها. ولما عاد التهامي من الزيارة طمأن الرئيس عبد الناصر بأنه بحث الأمر مع المسؤولين الأمريكيين واتضح له أن توقيع وإعلان هذه الصفقة لن يثير انزعاج واشنطن .. وطلب من عبد الناصر أن يوقع الاتفاقية وألا يخشى شيئاً. وتردد عبد الناصر .. فما كان من التهامي إلا أن صرخ في وجهه قائلاً : «امضِ يا جبان». ويقول أبو الفضل : «وكان ردي على حسن التهامي «أنه يجوز لك أن تقص مثل هذه القصص على أي إنسان آخر .. حيث إني أعلم جيداً أنه لا يجرؤ أي إنسان مهما كان قريباً من الرئيس عبد الناصر أن يحدثه ويأمره بهذه اللهجة المهينة»، وهو شيء أنا نفسي لا أصدقه، فمن المعروف أن عبد الناصر كان يتمتع بشخصية قوية كانت ستمنعه من قبول تلك الإهانة ولو حتى على سبيل المزاح. وبما أن «عنب النكسة مر» لم تمر تلك الأحداث على حسن دون أن تكون لها قصة درامية معه، فيروي أن عبد الناصر كان سبباً رئيسيا في النكسة وكان على علم بها، بل إنها كان من المقرر لها أن تحدث قبل ثلاث سنوات. ومن المهم التعرض لشهادة التهامي حول وفاة عبد الحكيم عامر، فبعد أن استدعاه عبد الناصر من النمسا التي كان سفيرا فيها اجتمع مع عبد الناصر في منزله. ويروي التهامي أن عبد الحكيم عامر الذي قيل إنه مات بالسم وانتحر, كانت قد صدرت إليه الأوامر من عبد الناصر بأن يتوجه إلى مركز القيادة في سيناء هو وطاقم القيادة في صباح يوم 5 يونيو الساعة السابعة صباحاً. وكان من عادة المشير عبد الحكيم عامر أن يوقف عمل بطاريات الصواريخ عن الإطلاق عندما يسافر جواً إلى سيناء أو منطقة القناة أو العودة منها, وصدرت التعليمات لبطاريات الدفاع الجوي بالتوقف عن العمل خوفاً من أن تلتقط الرادات طائرات المشير وتسقطها خطأ. وحدث أن واجه عبد الحكيم عامر في الجو أسراباً من الطائرات الإسرائيلية ولم يكن مفاجأ بذلك, لأنه علم من عبد الناصر مسبقاً أن هذا التوقيت - من 7 إلى 8 صباحاً - هو التوقيت المنتظر للهجمة الجوية الإسرائيلية. وحدث أن أدار عبد الحكيم عامر طائرته, وعاد إلى القاهرة بأقصى سرعة, تتبعه المقاتلات الإسرائيلية. ونزل من طائرته التي وقفت بمجرد إمكانها الوقوف على ممر الطائرات ونزل مسرعاً إلى مبنى المطار. وكانت الطائرات الإسرائيلية لحقت بهم, وأطلقت نيران رشاشاتها على طائرة عبد الحكيم عامر وهي على الأرض. ويتابع أن عبد الحكيم أبلغ عبد الناصر بالتليفون فور نزوله جرياً من الطائرة بما حدث وسأله سؤالاً صريحاً : نعمل إيه يا ريس ؟ فكان رد عبد الناصر : انسحاب يا عبد الحكيم ! وفي الاجتماع يروي التهامي أنه طرح على عبد الناصر بعض الأسئلة منها : أنت كان عندك خطة الهجوم الإسرائيلي, وجاءتك من باريس, وكانت تحدد بالضبط وقت الهجوم وتفادي الهجوم والإجراء المعتاد .. فكان رده : أيوه ! سأله : هل أخطرت عبد الحكيم ؟ قال : أيوه .. هو كان يعرف ! سأله : يا ريس أمال طلَّعته ليه في الجو الساعة السابعة صباحاً, وأنت تعرف موعد الهجوم الكاسح ؟ ! قال بالحرف : أيوه .. أنا قلت يطلع في السادسة .. هو قاعد في مصر يعمل إيه ؟ ! فسأله : عندما اتصل بك عبد الحكيم من مطار ألماظة بالتليفون يسألك عن تعليماتك في التصرف قلت له : انسحاب يا عبد الحكيم ؟ قال جمال : أيوه .. أيوه قلت له : انسحب يا عبد الحكيم. قلت له : بعد هذا .. هل شرحت له أو عرفته بكيفية أو خطة الانسحاب, إن كانت على مراحل, أو فورية, ولغاية فين ينسحب ؟ فقال : ده شغله .. ما سبق انسحب الجيش عام 1956. فرد تهامي له : كان من الممكن أن تنسحب القوات من سيناء, وتظل ممسكة بقناة السويس, أي تبقى بالضفة الشرقية والغربية, لأن قناة السويس تحمي ظهر القوات إذا وقفت في شرق القنال . هل قلت له أن يترك قناة السويس ؟ رد جمال : أيوه قلت لعبد الحكيم انسحب غرب القناة. عبد الحكيم .. هل مات أو انتحر ؟ قال : أنا كنت عايز تنتهي المشكلة بيني وبين عبد الحكيم لأنه كان عايز يعمل تحقيق في أسباب الهزيمة, وكانت دي المشكلة. أنا قلت عبد الحكيم ييجي عندي هنا في البيت, وييجي معاه اثنين من أعضاء مجلس الثورة القدامى ونحاول ننهي المشكلة. وأنا فهَّمت الكلام ده للاثنين, (وهم كانوا أنور السادات وعضو آخر لا يزال على قيد الحياة).. ولما حضر عبد الحكيم معاهم أنا طلعت فوق في دور السكن. ورفضت أقابله. وهم طلبوا منه أن ينهي هذا الموقف. فقال لهم : يعني آخد برشامة السم اللي شايلها معايا, وبعد جدال عنيف بينهم أجابوه بالإيجاب : أيوه يكون أحسن. فدخل عامر دورة المياه الموجودة بمكتب - عبد الناصر - وبابها مفتوح, وكشف عن صدره, استخرج كبسولة السم (أكونتين) وابتلعها أمامهم. ولكن هذه الكبسولة لم تكن كافية لقتل عبد الحكيم لأنه كان عنده مناعة ناتجة من كثرة تدخينه. ولما لم تؤثر فيه هذه الكبسولة من الإغماء أعطى السم مرة أخرى. ويقول التهامي : إن السم الثاني الذي أعطي لعامر كان من نوع آخر, لم يحتمله أكثر من ثانية واحدة. وعرفت أنه كان سم (السيانور). وعلمت فيما بعد الأسلوب الذي مات به عبد الحكيم عامر، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي إنسان يحبه ويقدره وهو اللواء الليثي, فلما سقط عبد الحكيم عامر ميتاً بين يديه في هذه المرة أصيب الليثي بصدمة عصبية لم تفارقه حتى أرسله السادات للاستشفاء في لندن, وهناك سقط من الدور العاشر بالمبنى الذي كان يسكن فيه فمات ومعه سرّه, الذي قصه عليّ. ولا يخفى كبرياء التهامي من مذكراته، فكان دائماً يتباهي بذكائه الحاد في إحباط محاولات جرت لاغتياله في الخارج .. أو حتى في تعامله مع الرؤساء، فيروي أن السادات أخبره أن «رجال الأمن أيام عبد الناصر كانوا يقولون إن جمال كان مقتنعاً بأن حسن التهامي إذا انفرد برئيس جمهورية مصر في أي مكان ثلاث دقائق، فلا يمكن أن يطمئن رئيس مصر لمصيره أو مستقبله أو يتكهن بما يمكن أن يحدث في تلك الدقائق» .. فغضب التهامي لما أخبره به السادات ولاحظ الأخير ذلك فسأله قائلاً : «لم غضبت؟» فقال له : «هذه إهانة»، فسأل السادات قائلاً : «ليه؟»، فقال التهامي بثقة كبيرة : «إن الدقائق الثلاث فيها تقليل من قدرتي على التصرف فيكفيني دقيقة واحدة أو أقل» .. فضحك السادات من قلبه على هذا التعليق الذي يثير استغراب كل من يُحاط به علماً
مشاركة :