مارسيل خليفة في حفل افتتاح «مهرجانات بعلبك» حلّق حتى الذرى

  • 7/7/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

هذه المرة تفوق مارسيل خليفة على نفسه، وهو يفتتح «مهرجانات بعلبك الدولية» مساء الجمعة الماضي. كان السؤال الذي يتردد قبل الحفل، ويتكتم عليه مارسيل نفسه، إن كان ثمة مفاجأة يخبئها لجمهوره، فإذا بها مفاجآت بالجملة. ليس مبالغة القول، أنه مرت سنوات قبل أن تشهد بعلبك حفلاً موسيقياً لبنانياً على هذا المستوى من الضخامة والرقي والاجتهاد. ليلة من المتعة الخالصة خص بها مارسيل جمهوره في أول حفل له في القلعة الرومانية المهابة، بعد أن كان حفله السابق ضمن المهرجانات عام 2013 قد نقل إلى بيروت تحت وطأة الوضع الأمني الصعب في البقاع. جاء مارسيل خليفة هذه المرة ليقدم حفلاً للتاريخ، يليق بالأعمدة المهابة والقلعة الشاهقة وتتناسب وروح المكان الضاجّ بعبق الآلهة. الأوركسترا الوطنية الفيلهارمونية ازدحم بموسيقييها الثمانين المسرح بقيادة البديع لبنان بعلبكي، خلفهم وقفت جوقة جامعة سيدة اللويزة التي ضمت ما يقارب 70 منشداً، وكالعادة تقدمهم جميعاً مارسيل متأبطاً عوده ملتحفاً بوشاحه الذي كان أبيض هذه المرة. كررها خلال الحفل وهو يخاطب جمهوره، «ما نقدمه الليلة استغرق وقتاً طويلاً، وعملاً ليس بقليل، ليس سهلاً أن تكتب لبعلبك». لكن النتائج جاءت على قدر التعب. الفاتحة كما الخاتمة كانت مقطوعة موسيقية وضعها خصيصاً لبعلبك، مطلع في جماليته كان يؤشّر إلى أن المقبل يستحق الإصغاء بتمعن. قصيدة محمود درويش التي صارت شهيرة بعد أن مسّها عود خليفة كانت التالية «فكّر بغيرك وانت تعد فطورك ولا تنس قوت الحمام. فكّر بغيرك وانت تخوض حروبك، لا تنس من يطلبون السلام». ثم طلب من جمهوره أن يردد وراءه تلك الكلمات التي غناها كثر ومنهم سيد إمام «يما مويل الهوى يما مويليا. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا». قائلاً للشخصيات الجالسة في الصفوف الأمامية. حضرات الوزراء والنواب غنوا معنا. معلقاً بعد مشاركتهم «شفتوا صار الوضع أحسن». لكن الحفل بعد ذلك بدأ يأخذ منحى موسيقياً تصاعدياً مع مقطوعة أطلق عليها اسم «صلاة موسيقى الليل» وضعها خصيصاً لتلك القامات التي مرت في بعلبك، ذكر منهم زكي ناصيف، عاصي ومنصور الرحباني وتوفيق الباشا، صباح، نصري شمس الدين، «وكل الذين مروا من هنا» قال مارسيل مفسراً «عملنا موسيقى تليق ببعلبك، تطلبت شغلاً، وما عملناها بيومين». موسيقى أوركسترالية تقتبس بعضاً من أغنية حنة يا حنة». فالفنان بدأ ينكه موسيقاه بالطعم الكلاسيكي الغربي متأثراً بالأوركسترات العالمية الكبيرة التي عمل معها في السنوات الأخيرة، لكنه يحافظ على روحه الشرقية، في مزج لذيذ وحيوي، تنفخ فيه الحيوية أصوات منشدي الكورال بين الحين والآخر. بين القديم الذي نسف الفنان بعضه بتوزيع جديد، لا يفقده رونقه ولا يدخلنا في غربة، كما كان يحدث أحياناً، والجديد الذي لحنه للمناسبة، والعتيق الذي أراد أن يبقى كما هو، والمقطوعات الموسيقية الساحرة التي وضعها خصيصاً لهذا الحفل الذي أراده نقطة تحول في مساره الطويل، قدم مارسيل خليفة خلطة أراد منها أن يتوثب دون أن يقطع مع الماضي، أن يجدد من غير أن يغضب جمهوره المتشدد أحياناً اتجاه ريبرتوار لا يريده أن يتغير أو يتبدل. فكانت خيارات الحفل مدهشة بالنسبة للبعض، ومخيبة بالنسبة لبعض قليل لا يرى في الموسيقى أولويته، بل يريد مارسيل «أحن إلى خبز أمي» و«ريتا» والبندقية، التي يحال أن يمر حفل من دونها، و«منتصب القامة أمشي». وهو لم يحرم جمهوره منها، لكن البعض كان يفضل المزيد منها. لكن حسناً فعل مارسيل أن أراد حفله لكل الأذواق، وأحب أن يقدم لجمهوره فنه بوجوهه المختلفة. وقبل أن يقدم الكورال أغنية من كلمات الشاعر حبيب يونس «اكتبني قصيدة» وصفها مارسيل بأنها «من النوع الشعبي، ونحن لنا وجوه مختلفة». وتواصلت المقطوعات الموسيقية الموزعة بمهارة حاذقة ممهورة بتحايا لكبار بعلبك بينهم عبد الحليم كركلا (مؤسس فرقة كركلا) الذي كان حاضراً بعباءته البعلبكية في الصفوف الأولى. وروى مارسيل أنه وفي بداياته وكان لا يزال تلميذاً في الكونسرفتوار الوطني، جاء عبد الحليم كركلا باحثاً عن شبان موهوبين يكتبون له موسيقى لعمل جديد كان يحضر له. «اقترب مني وقال لي سأمنحك أسبوعاً لتضع مقطوعة من ثلاث دقائق. فذهبت إلى عمشيت ووضعتها في ذات الليلة، وعدت، وحين سمعها منحني أربعين دقيقة، وكانت (رقصة العروس)». عزفها مارسيل بتوزيع جديد ومتوثب. ذكر أنه صادف أن الحفل كان يوم 12 أبريل (نيسان) 75 مع اندلاع الحرب الأهلية اللعينة وفي اليوم الثاني، أصيب باص الفرقة واستقرت رصاصة في ظهر الراقصة أميرة ماجد التي شلت وكانت أولى ضحايا الحرب. كما كانت تحية إلى الشاعر البعلبكي طلال حيدر الحاضر أيضاً الذي روى قصة لقائه الأول معه في باريس بفضل محمود درويش، حيث بدأت بعد ذلك رحلة من التعاون الخصب بين الطرفين، واصفاً إياه بـ«شاعر مجنون يشبه آلهة بعلبك»، مؤدياً قصيدته الشهيرة «بغيبتك نزل الشتي قومي طلعي عالبال». من الجديد والجميل قصيدة لصلاح جاهين أداها الكورال بعنوان «عصفورة عايزة تطير»، لحنها له مارسيل بعد أن قدمت له أخت الشاعر ديوانه، وأحب أن يسمعها اللحن منذ شهر، لكنه اكتشف أنها توفيت. ربما أن الذروة في هذا الحفل كانت مع «روكييم بيروت» التي بدأها رامي خليفة. وهي موسيقى جنائزية تسمع فيها صوت الخراب والحزن والموت لكنها تنقلب إلى موسيقى تصويرية مذهلة، تختلط فيها إيقاعات الفرح بمشاهد الانطلاق السريع صوب مكان ما ثم التوقف المفاجئ. حقاً إنها درة الحفل بكل ما امتزجت به من حالات تخلط بين الجنون والهدوء، الفرح والحزن، السرعة والبطء، ثم إحساسك أنك تواكب شخصاً يهرع نحو حتفه أو الخلاص، ولا يمكن أن تميز إلى اين يتجه. صوت رامي خليفة الذي واكب الجزء الجنائزي شكل إضافة مهمة، وهو غالباً ما يكتفي بتجويد آلة البيانو التي يعشقها، ونادراً ما يكون صوته جزءاً من المقطوعات. هكذا بات لبعلبك موسيقاها التي تفخر بها، ولبيروت موسيقى تحمل اسمها وتشبهها في مزاجها. انتفض مارسيل خليفة قبل أن ينتهي الحفل الذي دام ساعتين متواصلتين دون استراحة. وقف هذه المرة وأدى من دون عوده أغنية «أحمد الزعتر» التي لا يحب تفويت حفل من دونها، ومن بين ما أداه «نشيد الجسر» لخليل حاوي الذي كان له تحية أيضاً وهو «الشاعر الذي أطلق رصاصة على رأسه بمجرد أن رأى أول جندي إسرائيلي في بيروت عام 1982. ولم يحتمل المشهد» قال مارسيل خليفة. شكر خليفة آلاف الزاحفين إلى بعلبك من كل المناطق اللبنانية، والمايسترو الذي كان لشراكته معه، فعل السحر، في حفل بني على فكرة أن بعلبك لا يليق بها التكرار وإنما الخلق والابتكار. «طلبوا مني نشيداً جديداً لبعلبك فقدمنا عشرة أناشيد جديدة»، ختم فنان الثورة والإنسانية والتجديد.

مشاركة :