أكثر من ثلاثة مليارات شخص حول العالم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل نصف سكان الكرة الأرضية، ويعيش معظم هؤلاء حياة تشبه “العبودية” إلى حد ما، متشابكين طوال الوقت مع الآلات التي لا تتطابق أجنداتها دائما مع أجنداتهم، وينفقون يوميا الساعات في تصفح المحتويات الرقمية، على الكمبيوترات والهواتف الذكية، سواء في المنزل أو في العمل، واللافت أنهم غالبا لا يدركون كم قضوا من الوقت وهم يستخدمون تلك الأجهزة. وخلص استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غلوبال ويب إندكس″، للأبحاث المتعلقة ببيانات مستخدمي الإنترنت، في 34 دولة إلى أن مستخدمي الإنترنت يقضون ما معدله ست ساعات ونصف الساعة يوميا على الإنترنت. وأشار استطلاع الرأي إلى أن المستخدمين في تايلاند والفلبين والبرازيل ذكروا أنهم يقضون ما يفوق تسع ساعات يوميا على الإنترنت، ويمضون ثلث هذه الساعات على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي ظل التوسع المتواصل لشبكة الإنترنت وزيادة قاعدة مستخدميها وانتشار الهواتف الذكية في أنحاء العالم كافة، يبدو أن الكثير من المستخدمين لا يعرفون كيف يستعملون تلك الوسائل التكنولوجية على نحو واع وصحي. كان من المفترض أن تجعل التكنولوجيا حياة الناس أكثر رفاهية، فيتم تسخيرها لتلبية حاجياتهم وجعل حياتهم أكثر تطورا ورخاء، لكن من المفارقات أن العكس هو الذي أصبح سائدا، فإذا نظرنا إلى الصورة الأكبر، فإن هذه الاختراعات على وجه التحديد هي التي أصبحت تتحكم في جوانب مختلفة من حياة الناس، فهم يحملونها معهم إلى الفراش، وإلى المسرح، وإلى السينما، وإلى مأدبة العشاء، لأنها ما يسطر لهم حياتهم في كل زمان ومكان. وأما بالنسبة للأطفال، فإن الأجهزة الذكية أكثر ما تذهب إليه أعينهم، بغض النظر عن مكان وجودها، فيلهون بها في وقت الفراغ أو الإفطار وحتى قبل الساعات التي تسبق وقت النوم مباشرة، وعلى حساب التمرينات الرياضية، أو قضاء الوقت مع الأسرة، وهي نفس الأشياء التي لا يمكن حتى للكبار التوقف عنها. وكشفت دراسة أجراها فريق من أطباء الأطفال في جامعة براون الأميركية عن أنه كلما أكثر الأطفال من استخدام الأجهزة الرقمية، تراجعت إمكانية إنجازهم للواجبات المدرسية، هذا إضافة إلى تراجع معايير السلامة الصحية للطفولة لديهم، ومعدلات الاحتفاظ بالهدوء في مواجهة التحديات، وفق ما تقوله ستيفاني روست رئيسة فريق البحث. وتفيد الدراسة بأن الأطفال الذين يقضون ما بين ساعتين إلى أربع ساعات يوميا في استخدام الأجهزة الرقمية، تتراجع إمكانية إنجازهم للواجبات المدرسية بنسبة 23 في المئة، مقارنة بالأطفال الذين يستخدمون الأجهزة الرقمية لفترة تقل عن ساعتين يوميا. الأطفال الذين يقضون ما بين ساعتين إلى أربع ساعات يوميا في استخدام الأجهزة الرقمية، تتراجع إمكانية إنجازهم للواجبات المدرسية بنسبة 23 في المئة وفي دراسة معدلات استخدام الأطفال للأجهزة الرقمية، بما في ذلك مشاهدة التلفزيون، واستخدام الكمبيوتر أو ممارسة ألعاب الفيديو أو استخدام الأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية في أغراض غير دراسية، توصل الباحثون إلى أن 31 بالمئة من الأطفال يستخدمون الأجهزة الرقمية أقل من ساعتين يوميا، في حين يستخدم 36 بالمئة منهم الأجهزة الرقمية لفترة ما بين ساعتين وأربع ساعات يوميا، وأن 17 بالمئة يستخدمون هذه الأجهزة لفترات تتراوح ما بين أربع وست ساعات، كما أن 17 بالمئة يستخدمونها لأكثر من ست ساعات في اليوم. وفي ظل هذه الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم المعاصر، ليس من باب الاعتباط أن تضخ الشركات التكنولوجية أموالا طائلة وتستخدم خبرتها في خلق عالم افتراضي جديد، بل هدفها الأساسي كيفية تحقيق الاستفادة والربح الدائمين، فيما يستمر “عبيد” التكنولوجيا في النقر على أجهزتها طوال الوقت. وكشف نير آيال، مؤلف أكثر الكتب مبيعا حول تصميم المنتجات الرقمية والخبير في سلوك المستخدم، أنه يعرف جميع الحيل التي تستخدمها شركات التكنولوجيا للسيطرة على انتباه الناس، لأنه من علمهم تلك الحيل، على حد تعبيره. وأكد آيال أنه عندما درس كيفية تأثير التكنولوجيا على البشر، شعر بالذهول أمام نجاح فيسبوك وتويتر وغيرهما من الشركات، التي استطاعت أن تجعل الناس يتبنون عادات وسلوكيات جديدة لم يكونوا ليتبنوها لولا هذه الوسائل التكنولوجية، ومن هنا بدأ آيال في مراقبة ذلك تجربة وراء تجربة، وبعد عام من البحث الذاتي، توصل إلى بناء هيكل شرح فيه كيف تقوم المنتجات الرقمية بخلق الإدمان لدى مستخدميها، وكيف تقوم بتشكيل سلوكهم وعاداتهم. وعن ذلك يقول آيال “عندما تشعر بالتردد، قبل حتى أن تتساءل عن سبب شعورك بالتردد، تذهب إلى غوغل، وعندما تحس بالوحدة، قبل حتى أن تعي بأنك تشعر بالوحدة، فإنك تذهب إلى فيسبوك. وبالمثل، فإنك قبل أن تعي بأنك تشعر بالملل تذهب إلى يوتيوب، لا شيء يخبرك بأنه لا بد عليك أن تفعل تلك الأشياء، فما يدفعك إليها يوجد داخل نفسك”. ويعتقد العديد من الخبراء أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا له انعكاسات سلبية على الصحة والسعادة والقدرة الإنتاجية، كما أن النظر إلى شاشات الأجهزة الإلكترونية قد يؤدي إلى إجهاد العينين، إضافة إلى الآثار المحتملة للضوء الأزرق الذي يصدر عن تلك الأجهزة على الصحة النفسية للبشر. ومن النتائج الناجمة عن الأجهزة والتقنيات الرقمية كون الفرق بين العمل والحياة الشخصية قد أصبح مبهما الآن، بينما توفر الهواتف الذكية والرسائل الإلكترونية والمواقع الاجتماعية الاتصال المستمر بشبكة الانترنت وإمكانية التواصل بين الموظفين وأرباب العمل على مدار اليوم. وتقول بليندا بارمار، التي كانت من المبشرين بالتكنولوجيا ولكنها الآن أصبحت تقود حملة لمكافحة إدمانها لأنها قلقة جدا بشأن تأثيرها على الصحة العقلية “هناك صناعة كاملة مخصصة لسرقة انتباهنا، ومعظمنا لا يدرك حتى مجرد حدوث ذلك”.
مشاركة :