تحديد ملامح الشخصية الفقهية

  • 7/8/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الفقه بأنواعه الثلاثة العقائد، والأخلاق، والأحكام الشرعية العملية، وما يندرج تحتها أو كما يسميه المستشرق جورج بوسكي؛ بالقانون الإسلامي؛ هو الذي ينظم حياة الناس، ولا يكون ذلك إلا من خلال العلماء، وربما أحسن أربع شخصيات ندلف منها إلى موضوعنا هي شخصية ابن عباس، وأبي هريرة وشخصية ابن عمر، وأبيه عمر؛ فأبو هريرة كما تذكر كتب الحديث يروي حديثاً كما في الترمذي «توضأوا مما مست النار»؛ فقال له ابن عباس «أنتوضأ من الحميم» وهو الماء الحار، ويقصد ألسنا نتوضأ بالحميم فكيف نتوضأ بما منه نتوضأ؛ فقال أبو هريرة يا ابن أخي إذا سمعت حديث رسول الله؛ فلا تضرب له الأمثال، وقد كان الرأي منتشراً في العراق بكثرة، ولذلك لا عجب أن يكون لديهم فقيه كأبي حنيفة، ولكن الأعجب أن يكون لديهم فقيه كأحمد ابن حنبل؛ حتى قالت عائشة لامرأة سألتها لماذا تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة «أحرورية أنتِ» تعني به أعراقية أنت؛ لأنهم أهل الرأي؛ ويذكر الدكتور عبدالله السفياني في كتابه «حجاب الرؤية: الحجب المؤثرة على الخطاب الفقهي»؛ كحجاب النفس ويكون السؤال هنا هل تتم عملية الاختيار الفقهية بحرية مطلقة؟ أو بإرادة خالصة؟ أو بتوجيه عقلي محض لا تشوبه شائبة النوازع النفسية، ومناطق اللاشعور؟ التي تؤثر في العملية الفقهية. يقول ابن حزم: «فإنَّ اليقين قد صحَّ بأنَّ الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عمَّا سواه، متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتاً جدّاً، فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى لِين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم مُعتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلاً». وهناك أيضاً حجاب العادة، إذ تتشكّل منطقة رمادية من النصوص والسلوكيات البشرية، وأقرب مثال على ذلك مسألة المرأة والمبالغة في التضييق عليها إذ يمتاز الرجل العربي؛ كما هو معروف بغيرته، مع وجود نصوص قد يفهم منها؛ أنها تدعم النظرية الذكورية تجاه المرأة؛ إلى أن تصبح العادة هي الحاكمة، والمهيمنة على النظرة الفقهية التي تخص المرأة، وهناك أيضاً حجاب البيئة، وفي هذا يذكر الشيخ عبدالرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء أنه في الزمن السابق كان ينتشر القول بتكفير اللابسين ملابس عسكرية، وهذا القول اندثر تماماً الآن مع دخول الحضارة والمدنية على الناس، ولذلك فإنك ستجد فرقاً شاسعاً بين عالم نشأ في إطار مذهب فقهي واحد ومدرسة واحدة وأسلوب حياتي جاف، وبين عالم نشأ في محضن حضاري ومتنوع وحياة ثرية؛ ستجد الأول أقرب إلى الشدة والآخر أقرب للاعتدال، والسماحة، وهناك حجاب الاستبداد، وهذا واضح من اسمه، إذ ينساق العالم مع الطبقة السياسية الحاكمة، ويكيّف النصوص طبقا لرغبات تلك الفئة؛ فتنقلب الموازين، ويفقد الشعب بوصلته الحضارية، والاقتصادية. الاختلاف في المآخذ فكما ترى اختلاف العلماء في مآخذهم، وتأثير بيئتهم ومنازعهم النفسية عليهم؛ فابن عمر مثلاً كما يذكر عنه تلميذه نافع عندما سألوه عن حياته فقال لا تطيقونها، وهو بعكس ابن عباس الذي كان يميل للدعة ويجالس الشعراء كعمر ابن ربيعة ويستملح أشعارهم، وفي هذا يقول أبو جعفر المنصور لمالك بن أنس حين دعاه لتأليف كتابٍ يجتمع عليه الناس: «يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوِّن كتاباً، وجنِّب فيه شدائد عبد الله ابن عمر، ورخص عبد الله ابن عباس..» فابن عباس الفقيه العقلاني على النقيض تماماً من ابن عمر العابد الزاهد، ويتضح هذا في الحكاية التالية: سئل ابن عباس عن أرجى آية في كتاب الله فقال «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ». وسئل ابن عمر؛ فقال أرجى آية «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ» فابن عباس؛ لأنه كان يعاني الأمور العقلية، والتأمل الفكري كانت أرجى آية عنده تلك التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بالشك من إبراهيم»، وأما ابن عمر فإنه لما كان العابد الزاهد؛ فإنه تعلّق بالآية التي كانت تدور على مغفرة الذنوب لأنه كان يخشى على نفسه من نفسه، وابن عباس كان يخشى على نفسه من عقله. وابن عمر على النقيض تماماً من أبيه عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي: «فلم أرَ عبقرياً من الناس يفري فريه»؛ فإنه امتنع عن توزيع أرض السواد على المقاتلين، وجعلها للأجيال القادمة، وهذا هو التفكير الاقتصادي، ومقتضى التخطيط التنموي للمستقبل، كما عطل سهم المؤلفة قلوبهم ووجه ذلك؛ أن إعطاء المؤلفة قلوبهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً على علة وهي دفع أذيتهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم، ونحو ذلك؛ فلما أغنى الله عنهم حين قويت شوكة الإسلام، واشتد ساعد المسلمين انتفت العلة الباعثة على إعطائهم؛ فمنع هذا العطاء. ومسألة تعليل النصوص من أدقّ المسائل التي اختلفت فيها الآراء، حتى قال الشاطبي في الموافقات: «الثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء، وما يقترن بها من القرائن الحالية، أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات، والمفاسد في المنهيات»، وقال وهو بصدد توجيه هذا النظر وترجيحه: «إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقاً ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجرداً من الالتفات إلى المعاني، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه؛ كبيع الجوز، واللوز، والقسطل في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب؛ كالديار والحوانيت المغيبة الأسس، وما أشبه ذلك مما لا يحصى، ولم يأتِ فيه نص بالجواز، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلاً؛ لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غرراً، متردداً بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده». وابن القيم رحمه الله تعرض لهذه المسألة في كتابه إعلام الموقعين، إذ قال: «والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، وللتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان» وقال: «والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ماذا قال آنفًا﴾ وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله «فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا»، فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني، والفهم والتدبر». وقد كان الصحابة يعللون النصوص على عهد النبي صلى الله عليهم وسلم، ويقرهم على ذلك، ففي أعلام الموقعين لابن القيم: وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم؛ كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: «لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس». ممثال تطبيقي ولو أخذنا مثالاً تطبيقياً على هذا، وهو حكم المرتد الذي يدخل تحت مسمى حرية الاعتقاد؛ فإننا نستطيع أن نحمل أحاديث قتل المرتد على معنى، أو علة المحارب الذي يهدد أمن وسلامة المجتمع، وهو تأويل يؤيده ظاهر القرآن «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، والحديث الذي في البخاري «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا». وهو صريح في أمرين أن الرسول لم يقل له إن تركك للإسلام يقتضي قتلك ولا تبعه ولا أرسل خلفه من يقتله، بل علق على فعله بقوله «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها»، وهو صريح في خبثه وارتداده، وفي حديث آخر كما في كتب السيرة حين كان يعرض نفسه على القبائل «لا أُكره أحداً منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء». فالنبي هنا ينفي عن نفسه الإكراه، بل أكثر من ذلك يعلن صراحةً، أنه يقبل أن يدخل تحت حماية سلطة غير مسلمة ليبلغ دينه، فالإكراه، أو إلغاء وجود الآخرين، بما يحمله هذا الوجود من أبعاد متعددة، صفتان ليستا من الإسلام. ويمكن أن نضيف لهذا الاستدلال ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية من أن من جاء من المدينة هارباً إلى قريش لا ترده قريش للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في السنة السادسة للهجرة، ولن يهرب لقريش إلا من ترك دينه، ومع ذلك لم يطالب النبي برده؛ فلو كان حداً لما تهاون فيه النبي، وهذا ما يؤكد أنه عقوبة تعزيرية، أو مخصوص بمن حارب. بل أحياناً في قضية تعليل النصوص تكون الحاجة ماسة له حتى يتفق النص مع الواقع ويكون أقرب إلى الفهم والتصديق، فحديث «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً». سيق على مقتضى أحوال أهل المدينة حيث كانوا أصحاب زرع ينتهون من أعمالهم قرب مغيب الشمسِ حين تحين الصلاة؛ فيصلون ثم يذهبون إلى بيوتهم منهكين فيتعشون ويثقلون عن صلاة العشاء فينامون والفجر كذلك، حيث تكون عندما تشتد لذة النوم وأما الآن فإن أخف صلاة هي العشاء، إذ يخرج الناس منها إلى اجتماعاتهم ومصالحهم المختلفة، ولذلك تكون صلاة العصر الآن هي الأقرب أن تكون أثقل الصلوات إذا نظرنا إلى النص وعللناه، إذ يرجع الناس من أعمالهم قبلها؛ فيأكلون وينامون فتثقل عليهم، وهذا ما يجعلنا نفتح باباً في النظر إلى النصوص وتطبيقها على الواقع، والأخذ بما هو أليق وأكمل وأقرب إلى سماحة الإسلام.

مشاركة :