حتى وقت قريب وبتأثير طاغ من الأيديولوجيات التي هيمنت على الثقافة والسياسة كان سؤال الذات وصوتها المعبر عن عالمها الخاص مقموعا في القصيدة الحديثة، على الرغم من أن الشعر هو أكثر الأجناس الأدبية ارتباطا بالذات وتعبيرا عنها. كان على الشاعر أن يجعل من صوت الذات صوتا للجماعة في كفاحها من أجل التغيير والثورة تأكيدا لالتزامه بقضايا المجتمع أو الطبقة أو الأمة، بوصفها قضايا إنسانية كبرى على الشعر أن يحتفي بها. ولذلك لم يكن مسموحا للذات الشعرية بأن تعبر عن أحلامها وهواجسها وأوجاعها الخاصة، لأن ذلك كان خيانة وتنكرا لدور الشاعر في الانحياز إلى قضايا المجتمع وتطلعاته المستقبلية. لقد كانت تهمة البرجوازي الصغير هي أكثر التهم التصاقا بالشاعر الذي يتحدث عن الحب والألم والحزن خارج مدارات الالتزام بهذه القضايا الكونية والوطنية، وكأن الشاعر خلق ليكتب عنها دون سائر القضايا الأخرى. والغريب أن أغلب شعراء مرحلة صعود أحزاب وقوى اليسار العربي كانوا هم من يضطهدون أنفسهم ويمارسون القمع على ذواتهم وذوات الآخرين عندما يعتبرون الكتابة عن الذات في خيباتها وأحلامها وأسئلتها الوجودية استغراقا في الهم الذاتي وخيانة لقضايا الجماعة والوطن والإنسان، وكأن على الشاعر أن يتجرد من ذاته ويذوب في بوتقة الجماعة حتى يكتسب صفة الملتزم والثوري. ويعدّ الشعراء التموزيون وشعراء اليسار القومي والماركسي من أكثر الشعراء تمثيلا للخضوع لسلطة الأيديولوجيا ونظرية الالتزام التي شاعت منذ منتصف القرن الماضي. لقد تحول الشاعر إلى رائي وبشير للأمة والجماهير، حتى جاءت هزيمة عام 1967 المدوية، فبدأ هؤلاء الشعراء بجلد الذات وتقريعها على هذا الدور الذي لعبوه، وكذلك هجاء الواقع بعد أن كانوا يبشرون الناس بغده المضيء. وعلى الرغم من هذه الهزة العنيفة للهزيمة لم يستطع الشاعر التحرر من سلطة الأيديولوجيا واستعادة علاقته الحية مع الذات المسكونة بقلقها وأسئلتها الوجودية والإنسانية، ما جعل صوت الذات يختلط بأصوات الجماعة في هذا الشعر البكائي الحزين الذي كان يعبر عن هزيمة مرحلة وسقوط أوهام كبيرة. إن قراءة سيرة الكثير من شعراء تلك المرحلة هي قراءة في سيرة تاريخ محكوم بجدلية العلاقة بين السياسي والأيديولوجي والثقافي، ولذلك ارتبطت جماليات الشعر في تلك المرحلة بالسياق الثقافي الناظم لهذه التجربة. من هنا فإن قراءة تجربة شاعر كبير مثل محمود درويش يمكن أن تدلل على طبيعة التحولات التي طرأت على الوعي الشعري والجمالي عند شعراء الحداثة العربية، على الرغم من خصوصية التجربة للواقع النضالي والوطني الفلسطيني. في تجربة درويش كانت جدلية العلاقة بين السياسي والجمالي هي الحامل المركزي لها، ولم يكن لشعره أن يحقق فاعلية حضوره الواسع لولا استجابته الواعية للمزاج السياسي والثقافي الذي كان يسيطر على الجميع ويشكل الذائقة الجمالية لجمهور الشعر. إن موهبة الشاعر وقدرته على التطور والتجدد كانت السمة الأبرز في هذه التجربة، ولذلك لم يكن غريبا أن تعرّضه هذه التحولات في مرحلة لاحقة إلى نقد أيديولوجي من مثقفي الأيديولوجيا ونقادها عندما حاول أن يتحرر نسبيا من سلطة الأيديولوجي والسياسي على شعره نظرا لطبيعة التجربة الخاصة لشاعر هو ابن قضية وطنية وإنسانية كبيرة. لقد حاول درويش وبذكاء أن يعيد التوازن للعلاقة مع الذات ببعدها الفردي والجمعي في آن معا، وللعلاقة بين القضايا الكبرى والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية الإنسانية الدالة، وكان في ذلك يتبع صوته النابع من داخله، والمعبر عن ذاته كإنسان وشاعر فلسطيني وعربي وإنساني في آن معا، الأمر الذي جعله يفتح نوافذ تجربته على آفاق ذاتية وإنسانية رحبة، منحت شعره تلك القيمة الإنسانية والجمالية الخاصة. لقد كتب درويش عن تجربة الموت التي عاشها كمشكلة وجودية إنسانية، وكتب عن الحب أيضا كتجربة إنسانية ثرية بدلالاتها وعابرة للهويات والحواجز، كما كتب عن المرأة والجمال الأنثوي بل جعل من المرأة بما تمثله من قيمة خاصة مستقبل الإنسان. لكن كل هذا لم يحل دون أن يكتب كفلسطيني عن مأساة شعبه الذي كان واحدا منه، يعاني ما يعانيه من ظلم وتشرد، وعن تمسك هذا الشعب بحقه في الحياة والأرض التي انتزعت منه بالقوة. لقد أسهم تحرره من سلطة الأيديولوجيا في انفتاح تجربته وثرائها الذي منحها ومنح قضية شعبه في شعره ذلك البعد الإنساني المعبر والدال وهو ما ظهر في اللغة الحوارية التي ميزت العديد من نصوص تجربته الجديدة. وكان واضحا أن هذا التحول قد ترافق كذلك مع الانشغال بوقائع الحياة البسيطة في شعره، كما ظهر ذلك في قصائد أعماله الأخيرة على وجه الخصوص. على الجانب الآخر ساهمت قصيدة النثر في تجاربها الأكثر تمثيلا لها في تعميق وتطوير هذا التحوّل على مستوى الرؤية والاهتمام بعالم الشاعر وانفعالاته وهواجسه، باعتباره تكثيفا واختزالا لأحوال العالم كما يعيشها ويراها ويخبر كثافتها الحسية والروحية، ما جعل الذات الشعرية في وعيها الوجودي وقلقها وأسئلتها واندفاعاتها تشكل بؤرة تتداخل فيها الأصوات والحالات والصور والوقائع، وكأن القصيدة باتت هي بيت العالم كما هي بيت الذات، وقد أعاد الشاعر في هذا التكثيف الرمزي والدلالي والاستعاري بناء عالمه الشعري من شظايا الحواس والذاكرة والحلم على نحو أكثر دلالة وتعبيرا عن وعي الذات للعالم.
مشاركة :