منذ انتصار الثورة فيها العام 1979، وَقَفَ العالم ضدّ إيران لأنها «جمهورية إسلامية»، لا تريد الاعتراف بالهيمنة الأميركية على العالم خصوصاً بعد «البريسترويكا» وغياب الإمبراطورية السوفياتية. وقد تَسَبَّبَتْ على مرّ الأعوام بإظهار «عدم فاعلية» أسلحة أميركية، ووضعتْ قواعد اشتباك جديدة وأَفْسَدَتْ على واشنطن مشروعَها لإقامة «شرق أوسط جديد». كما تَسَبَّبَتْ بتعريض أمن حليف أميركا الرئيسي (إسرائيل) للخطر. ورغم أن العديد من الخبراء والأكاديميين الموجودين في الغرب لديهم معرفة وثيقة بإيران، التي تريد تصدير الثورة، إلا أن صنّاع القرار يجهلون التعامل معها وإيجاد السياسة والكلمات الصحيحة لجلْبها إلى طاولة المفاوضات. العقوبات الأميركية ليست جديدة. إذ حظر الرئيس جيمي كارتر واردات النفط وجمّد 12 مليار دولار في الحسابات الإيرانية وحظر جميع التجارة الأميركية مع طهران وكذلك السفر إليها العام 1980. وأعلن الرئيس رونالد ريغان، أن إيران دولة راعية للإرهاب ومَنَعَ القروض الدولية لها وفرض حظراً على وارداتها. وقام الرئيس بيل كلينتون بتوقيع الأمر التنفيذي الرقم 12959 الذي وسع العقوبات وحظر كل الاستثمارات الأميركية واستيراد الصناعة البترولية. وجمّد الرئيس جورج دبليو بوش أصول الأشخاص والجماعات والكيانات الأجنبية وكل الشركات التي تتعامل مع إيران أو تدعمها. وحظر الرئيس باراك أوباما المواد الغذائية والسجاد الإيراني وفَرَضَ عقوبات على الحرس الثوري وأوقف التعامل مع البنك المركزي. ورغم كل هذه العقوبات، يملك اليوم المرشد السيد علي خامنئي عشرات المليارات من الدولارات من خلال «الصندوق الوطني للتنمية». وقد استخدم فقط 4 مليارات دولار لتطوير قدرات الصواريخ. وفي حال وقوع أزمة حقيقية، يمكن لطهران البقاء على نشاطها وبيع جزء من نفطها إلى دول ترفض العقوبات، وتهريب مئات الآلاف من البراميل يوميا إلى «السوق الرمادية» لزيادة مدخول صادراتها النفطية. إذاً لن تؤثّر العقوبات على النظام الحالي رغم تأثيرها على الشعب والمجتمع. وقد تَعَهَّدَتْ طهران دعم «النضال العادل لجميع الشعوب المضطهَدة»، وهي ترفض كل أشكال «الهيمنة الإمبريالية» من خلال ما أَلْزَمَتْ به نفسها بالدستور في المواد 3 و152 و154 التي تدعو إلى القضاء على النفوذ الأجنبي في البلاد. وهذا يوضِح أهداف القيادة الإيرانية من دون مواربة.ويملك خامنئي قوةً مالية كافية لدعْم كل شركاء إيران في الشرق الأوسط بغض النظر عن مدّة العقوبات. وقد عزّزت التهديداتُ الأميركية - الإسرائيلية هدف طهران في تمويل وتسليح كل شركائها في الشرق الأوسط ليدعموها في حال تهديد أمنها القومي ووجودها، وبالتالي فهي لن تكون وحدَها وتستطيع مع شركائها إلحاق الضرر بأعدائها. بالإضافة إلى ذلك، فان الصواريخ التي أرسلتْها إيران إلى «حزب الله» تستطيع ضرْبَ منصات النفط والموانئ والدبابات والبنية التحتية الإسرائيلية وإيجاد قواعد اشتباك جديدة رغم تَفَوُّق القوات الجوية الإسرائيلية والقوات البحرية والمشاة وأجهزتها الإلكترونية والعسكرية. وقد ساهم التدخل الإيراني الفوري في العراق العام 2014 بعد سقوط الموصل و40 في المئة من البلاد في أيدي تنظيم «داعش» بإفساد مخطط أميركا لتقسيم البلاد. بل أكثر من ذلك، ساهم هذا التدخل بإنشاء قوات «الحشد الشعبي» على شكل «الباسيج» (قوات الحرس الثوري) للمحافظة على النظام ومنْع انقلابات عسكرية... وسيقف «الحشد» إلى جانب طهران لعقود. وفي سورية فشلتْ عشرات الدول في تغيير النظام رغم الاستثمارات الضخمة. وأَفْسَدَتْ طهران أمل إسرائيل بتقسيم سورية وسيطرة «داعش» عليها، كما صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي يعالون بنفسه. وتُعّدّ ايران دولةً مُهَيْمِنَةً وقوية في الشرق الأوسط من خلال تعزيز حلفائها وإحباطها تحقيق هدفه «الشرق الأوسط الجديد» الذي أعلنت عنه مستشارة الأمن القومي الأميركي سابقاً كونداليزا رايس في لبنان العام 2006. وقد رضخ أوباما لإتفاقٍ نووي لأنه وَجَدَ أن لا فائدة من العقوبات وأراد منْع طهران من مشوارها السريع نحو القدرة النووية الكاملة وتأخيرها لسنوات طويلة. لم تكن إيران ساذجة لأنها تعلم أن لا ثقة بين الموقّعين. وقد أوْجدت الاتفاقية توازناً بين المتشددين والبراغماتيين في الداخل وتركتْ لنفسها مَخْرَجاً تدريجياً أو نهائياً إذا لم يتم الوفاء بالعهود. وقد انطلقت من مستوى 3.67 في المئة إلى 4.5 في المئة من تخصيب اليورانيوم. واذا وصلتْ إلى نسبة 20 في المئة أو 70 في المئة فسيكون ذلك تَدَرُّجاً بالانسحاب لإعطاء أوروبا الوقت الكافي للتحرّك والنأي بنفسها عن أميركا من دون أن يكون هذا المستوى كافياً لإنتاج القنبلة النووية، إذ تحتاج نسبة التخصيب العسكرية إلى بين 80 و90 في المئة. وبالنسبة لأوروبا، فهي تتبنى شرعيّتَها من مبدأ احترام القانون، وبالتالي فإن موقفها مُحْرَج بين احترام الاتفاق الذي وقّعتْه وعلاقتها مع أميركا. أما بالنسبة لإيران فهي لا تريد الظهور ضعيفةً ولا تستطيع التراجع من دون كسْب أي نقطة وترغب في حفظ ماء وجهها والحفاظ على كبريائها الوطني وكرامة شعبها وخصوصاً أن الرئيس دونالد ترامب هو الذي انسحب وخَرَقَ الاتفاق.أما ترامب فقدّم نموذجاً جديداً للعالم عن أميركا. فهو يريد أي شيء ويأخذ ما يتمنّاه. وكل شيء يصبح ملكه ويفرض الأثمان مقابل الحماية. ولم تعد القيَم الأميركية تُحترم ولا حتى تُعتبر أميركا وسيطاً محتمَلاً في أي أزمة، كما صرّح الرئيس محمود عباس بالنسبة للقضية الفلسطينية. وعندما وَصَفَ سفير بريطانيا في واشنطن المستقيل كيم داروش، ترامب بأنه «يشع انعدام الأمن» وأن البيت الأبيض «بيئة مختلّة بشكل فريد»، فمن الواضح أن واشنطن لن تكون جاهزة لأي صفقة مع طهران ما دام ترامب في منصبه. وإذا أنْهى ترامب ولايتَه الأولى، أو حتى الثانية، سيكون من الضروري وجود فاصِل زمني قبل استئناف المحادثات النووية مع إيران من جديد بفعل انعدام الثقة. وتبقى فقط أوروبا الأمل الوحيد لإيران حتى ولو أنه لا يُتَوَقَّع إلا الشيء القليل من القارة الأوروبية المُنْقَسِمَة على نفسها. ولذلك فإن احتمالَ الحرب بين أميركا وإيران وبقية الشرق الأوسط يزداد بشكل كبيرِ إذا انتُخب ترامب من جديد. وتدرك طهران ذلك وتعلم أن فرصَة ترامب مرتفعة بالفوز بولاية ثانية، وهي تستعد مع حلفائها لحربٍ مقبلة مُحْتَمَلة.
مشاركة :