افتتحت مساء الأربعاء 10 يوليو الجاري فعاليات الدورة الـ55 لمهرجان الحمامات الدولي بمدينة الحمامات التونسية، بعرض مسرحي كما جرت عادة المهرجان الفني والثقافي كل عام، حيث أن الحضور المسرحي البارز جنبا إلى جنب مع الحفلات الموسيقية والاستعراضية هو ما يميز هذا المهرجان العريق. هذه السنة قدم المهرجان عرضا مسرحيا من إنتاجه بعنوان “رسائل الحرية”؛ نص للكاتب التونسي عزالدين المدني وسينوغرافيا وإخراج حافظ خليفة. تاريخ وإسقاطات تتناول المسرحية فترة تاريخية حرجة من تاريخ إفريقية (تونس) دارت خلالها رحى حرب دينية، أذكى جذوتها دعاة من الشيعة وتحديدا من الإسماعيليين، جيشوا قبائل بربرية مثل كتامة وقاموا بمحاربة الدولة الأغلبية التي همشت البرابرة كغيرها من الدول التي قامت باسم الإسلام في شمال أفريقيا، وكان نتيجة هذه الحرب التي خاضها البرابرة مصدقين لنبوءة ظهور المهدي المنتظر، أن قامت الدولة الفاطمية، وهي أول دولة خلافة تتخذ من المذهب الشيعي منهاجا لها، ولكن الأمور عادت إلى ما كانت عليه وتحول حلم الحرية إلى كابوس. المسرحية المكتوبة بلغة عربية مناسبة لتلك الفترة، بطلها أبوعبدالله الصنعاني، الداعية الشيعي الذي صادق أهل كتامة واتخذوه إماما ومرشدا لهم، وهو يحدثهم بقدوم المهدي المنتظر، ويغري عقولهم وقلوبهم بالتحرر من ظلم الأغالبة، ومن تهميشهم وإنكارهم، انقادوا معه إلى معارك أدت إلى تأسيس دولة جديدة، دولة استقدم إليها الصنعاني من كان يعتقد أنه من نسل الرسول وهو عُبيدالله المهدي، فما إن جاء المهدي ونصب نفسه خليفة حتى ذاع الظلم وقتل الفقهاء وشرّد الناس وغصب أموالهم، جرائم شتى عاشها القيروانيون خاصة، ليتبين في النهاية أن المهدي هذا ليس من نسل الرسول.وبالعودة إلى التاريخ فإن الشكوك التي أثيرت حول أصول الفاطميين كثيرة، فمن المؤرخين من رأى أنهم لا يمتون بصلة لنسل الرسول ولا لفاطمة الزهراء، وأنهم من بادية الشام، وآخرون يرون أنهم فرس، وفي العمل المسرحي، اتفق الداعي الصنعاني وأخوه على أن عبيدالله المهدي مزيف، وهو ما أدى إلى مقتلهما، لتنتهي المسرحية على أمل قيام ثورة ضد الطغاة الجدد. الإسقاط على الواقع اليوم يبرره مخرج العمل والقائمون عليه، بأنه في مدار التحرر الموؤود، وهذا ظاهر منذ العنوان “رسائل الحرية”. وكأننا بالحدث التاريخي يتحول إلى رسالة جديدة اليوم تدعو إلى التحرر، وإلى أن من أتوا باسم الصلاح والحرية، ليسوا سوى طغاة جدد، هذا ما يبدو من العرض الذي ينتقد وصول الإسلاميين إلى تونس ما بعد الثورة التي قامت طلبا للحرية والكرامة، ولم يشارك فيها الإسلاميون، بل هم سطوا من بعد على جهد الشباب ودمائهم، وكلنا يذكر استقبال زعيم إخوان تونس راشد الغنوشي، بعد نجاح الثورة وفرار الرئيس كما فر في المسرحية الخليفة زيادة الله، وقد استقبل الغنوشي بأغنية “طلع البدر علينا” التي استقبل بها أهل المدينة الرسول محمد. إنه المهدي الذي انتظره ناس يائسون لإصلاح أمورهم، فما كان إلا وعادوا مع ما رأوه من ظلم وحيف إلى التباكي على ما فات، فما فات كان أفضل مما هم عليه الآن. وهذا ما نجده تماما في العمل المسرحي. إنها سيرة ثورة وئدت، وبات الثوار يتمنون أن يعود من ثاروا عليه. الإسقاط يبدو واضحا، كما تبدو السينوغرافيا لعبة جهد، مثلا في إقحام القطار أو البنادق في زمن كذاك، أو سعف النخيل بدل الأسلحة، لعب جيد على الرموز، كما لا ننسى الأداء المبهر للمثل التونسي بشير الغرياني الذي أدى باقتدار دور الداعية الإسماعيلي عبدالله الصنعاني. وأجواء العمل شدت الجمهور الذي أراد متابعة الخرافة. لكن هل كانت مقاربة ناجعة حقا للثورة؟ المسرحية كلاسيكية وخطيّة، لا لعب فيها على ملامسة مناطق إشكالية. إنها رسائل إيهامية، تزيد من حرارتها الموسيقى المتبعة والتي خالطت الحوارات أو الخطابات أحيانا، وأيضا كان الاعتماد على الفنان التونسي لطفي بوشناق الذي أدى مقاطع خصيصا للعمل، وكانت مميزة فعلا. خطاب كلاسيكييبقى أن نتساءل عن الخطاب الذي قلنا إنه إيهام، يصل إلى درجة التماهي بين المتلقي والعرض، ليطلق له رسائل تعليمية مباشرة تقول “أنتم المهدي”. إنها الخلاصة. عدنا مع هذا العمل إلى مسرح تعليمي لا يتجاوز تأثيره لحظة التلقي، لا فكرة تحفر في عقول الناس، ولا جمالية جديدة، ولا خطاب شجاع وجريء يكسر حواجز التعبير والتفكير والرؤية عند الجمهور. لقد ارتمى الفن المعاصر في مجالات شتى في مناطق مجهولة بشجاعة أفقدته أحيانا كثيرة الجمهور، لكن من يتبع من؛ الفن أم الجمهور؟ من خلال هذا العرض نتبين الحلول السهلة التي اتخذها بعض المسرحيين التونسيين لإشكاليات عديدة شكلية وجوهرية، فعاد الكثير منهم إلى نصوص واضحة بخرافة واضحة وبنية واضحة، عادوا بوثوقية شبه عمياء، تعرض لجمهور حكاية واثقة ومحددة، جمهور لا ينبغي أن تتعبه بالتفكير بل يجب أن تخدّره بما تراه هي فحسب، فينساها وتنساه بعد العرض بعشر دقائق. ربما كان خيار المخرج أن يذهب إلى التراث ويحفر هناك، ولكن العمل على التراث وعلى التاريخ فنيا خطير جدا، ولذا كان الاتجاه الأكثر تأثيرا هو ما يتناول التاريخ دون أن يركز على الأحداث الكبيرة، ففي التفاصيل مواطن عمل كثيرة يمكن من خلالها قلب المعادلة وكشف وجوه أخرى لا نعرفها عن التاريخ. ومن منا مثلا لا يتذكر لعبة ماركيز في “مئة عام من العزلة” وهو يتناول قصص مذابح مزارع الموز من زاويا مختلفة تماما حمّلها أبعادا تاريخية ودلالية كبرى من تاريخ كولومبيا. اللافت أن هذا النمط المسرحي ما زال قادرا على استقطاب الجمهور من الشباب، وهذا على عكس ما يروج له سطحيو النظر بأن المسرح يكتب باللهجات المحلية فحسب، أو يتناول قضايا الآن وهنا فقط. ويبقى أن هذا هو العرض الأول للمسرحية التي نأمل أن يكون أثرها أثر رسائل الحب الأولى.
مشاركة :