يؤكد الناقد والكاتب البحريني فهد بن حسين مقولة "قراءة أكثر من كاتب أفضل" فهو يقول عن نفسه آمنت بأهمية القراءة باختلاف أنواعها، وتعلمت منها أن قراءة نص ما ليس بالضرورة الإيمان به أو بما يطرحه من أفكار ورؤى، ويقول حضرت الكتابة لديّ ضيفة وتحولت فيما بعد إلى صديقة وخليلة حتى بتنا روحا واحدة، تمدني بالقوة التي تأخذها من القراءة وأمدها بما أؤمن به من اهمية الكتابة تجاه العالم والحياة، مميزا بين الكتابة المسؤولة والكتابة التجريبية التي يمارسها الكاتب بشكل يومي، ويقلب فهد بن حسين معنا على منضدة قصتي مع كتاب أوراق الطفولة مستذكرا سيارة وزارة المعارف آنذاك وما تحمله في جسدها من كتب متنوعة ساردا لنا حكاياته مع القراءة والكتاب فإلى الحوار: * ما الكتاب الذي أحدث تأثيراً فيك بعد قراءته؟ - لا أتصور أن يكون هناك كتاب واحد هو من يغير حياة المرء، وإنما هي مجموعة كتب تراكمت عبر السنين وأسست للمرء قاعدة قد يعتبرها من الأمور المهمة التي غيرت جزءًا من حياته، ولهذا فقد أسهمت القراءة منذ الصغر وتحديدًا في المرحلة الإعدادية، وما دفعني للقراءة وحب الاطلاع سيارة وزارة المعارف آنذاك، وزارة التربية والتعليم حاليًا، وما تحمله هذه السيارة في جسدها من كتب متنوعة حجمًا وشكلاً ومضمونًا، وفكرة المكتبة المتنقلة كانت منتشرة في البحرين، وقد خصص لقريتنا بحسب ما أذكر يوم الاثنين من كل أسبوع، فتأتي السيارة عصرًا لتستقر عند زاوية بمنطقة تجمع الرجال للتبضع والشراء، تسمى في ذلك الوقت (بالبرية)، وما علينا نحن الصبية وطلاب المراحل الثلاث إلا الذهاب فرحين مسرورين بحضور السيارة أولاً، ومحاولة التحدث لمن فيها ثانيًا، ولاستعارة كتاب ثالثًا، وهو الشيء الذي كنا نتبارى من أجله. وأذكر أول كتاب قرأته استعارة من المكتبة المتنقلة كان بعنوان (الرصاصة لاتزال في جيبي)، أما أول كتاب قرأته من مكتبة أخي وأنا في المرحلة الإعدادية رواية (إني راحلة) للكاتب المصري يوسف السباعي، ورواية (الأم) لمكسيم جوركي كانت أول رواية أقرأها مترجمة حصلت عليها هدية من نادي النويدرات بعد تخرجي من الثانوية العامة في العام 1979م. ويبدو ارتباطي بالسرد تبرعم منذ بداية العلاقة بالقراءة من دون تخطيط أو دراية؛ لأن ما ذكرته هو في مجال السرديات، بل كنت أحرص في تلك الفترة على قراءة العبارات والجمل وبعض الأشعار والحكم التي كانت تدسها مجلة طبيبك في متنها وخواتم الموضوعات الطبية والصحية، كما كنت مشدودًا ومنتبهًا للمعلم وهو يتحدث عن قصة فارس بني حمدان التي درَسْتها ثم درّسْتها، وقصة وا إسلاماه، وأخذني السرد في المرحلة الجامعية لقراءة بعض الأعمال السردية البحرينية، ومعظم روايات كل من حنا مينة، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، واستمر الحال بعد التخرج لأنكب على قراءة الكثير من أعمال نجيب محفوظ، وبعض أعمال محمد عبدالحليم عبدالله، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، وبعض أعمال الكتاب الأجانب، مثل: همنجواي، وتولستوي، ومكسيم جوركي، وفكتورهيجو، ودكنز وغيرهم. ولكن بمرور الوقت وتعدد القراءة والتخصص في مجال معين بالكتابة فيه وهو السرديات، فإن هناك كتابا أعتبره مهمًا جدًا للمنظر والفيلسوف بول ريكور بعنوان "بعد طول تأمل" حيث يعطيك الكاتب مساحة كبيرة من التفكير فيما هو عليه، وأنت تقرأ الكتاب الذي هو سيرة ذاتية عنه فيأخذك إلى عوالم الفيلسوف المتعددة، على هذا الإنسان الذي أتي لعالم الثقافة والفكر والفلسفة من بوابة العلاقة التعليمية التي ربطته بالتعليم وأساتذته جاء لعالم الثقافة من حالة الألم ومكابدته منذ صغره، باستشهاد أبيه ابان الحرب العالمية الأولى، وموت أخته وموت جده الذي افتقده بعد زواجه بفترة قصيرة، وفرض الواقع عليه أن يكون جنديًا في الحرب العالمية الثانية. كل الظروف لم تمنعه من تحقيق حلمه الفكري والثقافي، بل كان يحتضن الزمان والمكان ليأخذ منهما ما يؤصل مناخ شغفه نحو المعرفة.. تردد على كبار الفلاسفة وقرأ لهم ولغيرهم، كما ان هناك رواية الكاتبة التركية إليف شافاق المعنونة ب"قواعد العشق الأربعون" وهنا أتوقف عند جانبين مهمين في الرواية أعجبت بهما وبدأت وضع المقارنة بينها وبين العديد من الأعمال الروائية العربية من جهة والخليجية من جهة أخرى، ألا وهي توظيف اللغة التي تحيلك على نبأ الشخصية الروائية، وربما يعود هذا إلى الترجمة التي اعتبرها من الترجمات المهمة وهي ترجمة الأستاذ خالد الجبيلي، إذ تميزت الرواية بثلاثة مستويات من اللغة، فهناك اللغة الصوفية وحضورها حينما يكون الحوار أو السرد أو الوصف بين شخصيات متصلة بعالم الصوفية وفلسفتها، وتتحول اللغة إلى لغة الإنسان العادي المعاصر حينما تكون بين الشخصيات المعاصرة، وتتغير مباشرة حين يكون الحديث بين من يكتب عن الصوفية والصوفيين وبين العالم المعاصر، وهذه القدرة أتصور ليس عند الجميع بل عند من يملك الموهبة الحقيقية والقدرة الفائقة على تطويع اللغة وحركة الشخصيات. بالإضافة إلى رواية المنظر أمبرتو إيكو وهي: " جزيرة اليوم السابق" الذي يبحر بك من عالم الحياة الرتيبة والتي كثيرًا ما تجدها في الأعمال الروائية إلى عالم البحار وعلومه وكيف ينظر إليه وفق العلوم وليس الخبرة البحرية، وفي الوقت نفسه ترى إمكانية الكاتب وهو يبث إليه بين الحين والآخر معلومات قيمة جدًا عن الكتابة الروائية والسرد. وهو الذي ترجم له مؤخر كتاب مهم جدًا بعنوان "اعترافات روائي ناشئ" والذي أتمنى لكل كاتب في السرد أن يقرأ الكتاب لما فيه من قضايا الكتابة الروائية والمدة الزمنية والبحث عن المصادر وتلك المرجعيات التي يتكئ عليها الروائي. * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع بالتأثير؟ وما مدى استمرار تأثيره؟ - عبر فضاء الكتاب "بعد طول تأمل" حيث تكتشف كم أنت محتاج إلى هذه السيرة لتكون رافدًا معرفيًا إليك، إذ اثر في اسئلتي التي تدور بين الحين والآخر في مخيلتي حينما ميز الهشاشة عند الإنسان بثلاثة مواضع، هشاشة المخيلة التي تتوسط الأفق المتناهي للإدراك والقصد اللامتناهي للكلمة، وهشاشة الاحترام التي تتوسط بين الطبع والسعادة، وهشاشة العاطفة المنقسمة بين حميمية الكائن الكئيب وسعة الوجود المنفتح. كما أخذني إلى أسئلة السرد والتفسير التوليدي والإحالة الخفية والتفسير البنيوي والعلاقات الجدلية بين الأفكار والأمور الحياتية والثقافية. * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - إنها القراءة التي تأخذك نحو الكتابة، هكذا سبق التفكير في الكتابة شعور دفين بأهمية القراءة التي تعني بالنسبة لي هي الحالة الدائمة مع ديمومة الحياة، والفاعلة في تشكل خواص الفرد واتجاهاته، وهي التي تسقي بجداولها الأرض اليباب لكي تنبت العشب والأزهار، وتترك أثرها الذي ليس له حدود في تكون الاتجاه وتحديد الأفكار، هكذا آمنت بأهمية القراءة باختلاف أنواعها، قراءة التسلية وقراءة السرعة وقراءة التأمل وقراءة السؤال والقراءة الناقدة.. تعلمت من القراءة أن النقد ليس الكتابة ضد أو مع، وأوضحت لي أن قراءة نص ما لا تعني أن تؤمن به أو بما طرح من أفكار ورؤى. وكشفت لي أنه كلما مارست فعل القراءة كلما ضاقت بك السبل وبدأت التعرجات تبرز في طريق الطرح والسؤال، وبينت لي أنها أي القراءة تؤمن بقانون التطور والاختلاف لأنها بنيت على هذا الأساس. هكذا جاءت الكتابة بعد ركام من القراءة واحتضان الكتاب الورقي قبل الرقمي، جاءت لتصيغني ذهنيًا وأصيغها طرحًا وتداولاً.. حضرت الكتابة لي ضيفة فأصبحت صديقة ثم خليلة ثم بتنا روحًا واحدة تمدني بالقوة التي تأخذها من القراءة وأمدها بما أؤمن به من أهمية الكتابة تجاه العالم والحياة طالبة وبقسوة أن تكون القراءة أكثر من الكتابة لهذا أمنت فعلا أن تقرأ كثيرًا وتكتب قليلاً وهذا لا يعني التجريب فهناك فرق بين الكتابة المسؤولة والكتابة التجريبية التي يمارسها الكاتب بشكل يومي. الكتابة حالة تكمن في المابين، بين الظهور والاختفاء، بين الرغبة الجانحة نحو الإقدام، وبين الرغبة في الانكفاء، الكتابة هي حالة المرء الذي يعيش الحياة مرتين، يعيشها بوصفه كائنا بشريًا طبيعيًا، وبوصفه كاتبًا يحمل هم الكتابة والآخر، يعيش الحياة بكل تناقضاتها وتقلباتها وتجلياتها، الكتابة هي الحياة في كلاسيكيتها ورومانسيتها وواقعيتها، الكتابة هي الواقع المعيش والمتخيل، هي السعادة التي يطمح إليها كل إنسان تواق للمعرفة، وفي الوقت نفسه الكتابة هي طريق وعر معبد بالأشواك والأزهار في وقت واحد الكتابة عالم غريب وجميل. قرأت في المدارس النقدية القديمة والحديثة، وحاولت أن أجرب ما استطعت فهمه من أدوات ومصطلحات ومفاهيم على ما أكتبه قدر الإمكان، وأحببت كثيرًا الاشتغال على التأويل الذي يفرض قراءة واعية ناقدة تجاه الكثير من الأبعاد المرتبطة بحالة القراءة والكتابة، وبالعناصر المعنية بالنص والكاتب والمتلقي، وبحالة المجتمع وحوار المدلولات، وبطبيعة المجتمعات وتكون محيطها الاجتماعي والثقافي، وطرح الأسئلة المتعددة، ونسج العلاقة بين القارئ وتأويله من جهة، والنص ومدلولاته من جهة ثانية، فلم تعد الكتابة مجرد رغبة وانطلاق، بل هي فن له تقنياته، فالكتابة ليست إيحاء، فالتخطيط والمتابعة عتبات مهمة في حالة الكتابة، وهذا ما يحوّل الكتابة من كتابة عادية إلى كتابة مثقلة بالأخص الكتابة التي لها منهاج يستحضره الكاتب، الأمر الذي جعلني أنظر إلى أي نص أمامي ومعي ما يمكنني من استنطاقه قدر المستطاع وفق مرجعية نظرية وإجرائية لكي أحاول فهم التحولات في مجال الكتابة النقدية والعلاقة ذات الخصوصية بالحركة الأدبية والثقافية التي أشتغل في محيطها.
مشاركة :